ما معنى التأويل الباطني وما هو أصله؟
اعلم وفقك الله أن التأويل لأية قرآنية ليس معناه التفسير أو التمحيص.. فالتأويل هو ارجاع الشيء المراد تأويله إلى أصله الأول حيث يكتمل المعنى ويظهر التأويل كإخراج الزبدة من الحليب بشرط أن يكون من يقوم بالتأويل من أصحاب النفوس النقية المستمدة من عالم التحقيق أو دائرة الحمد المباركة.. و يكون ممن صفت سريرتهم وتطهر مشربهم فيرى في الكلام المادي رمزيته ومجازيته ومعناه الحقيقي وتنكشف له الغاية منه.. والحقيقية أن التأويل هو الفطرة الأولى للإنسان.. فالذي يرى الأمور بشكلها الظاهر دون الاستطاعة في الوصول إلى باطنها فهو من تقلت نفسه من درن الدنيا وشل فكره وعقله من زينتها ومن رأى الباطن في الظاهر فهو من تحقق فيه قول الله أفلا ينظرون أفلا يبصرون أفلا يعقلون.. فالشريعة مشتملة على ظاهر وباطن فكان لا بد من اخراج النص من دلالته الظاهرية إلى دلالته الباطنية بطريق التأويل ليتضح المعنى المخفي فيه والسر الذي بين كلماته وحروفه فالظاهر هو الصور والأمثال المضروبة للمعاني.. والباطن هو المعاني الخفية التي لا تتجلى إلا لأهل البرهان.. وكلما صفت نفس المرشد أو الناطق المؤول للقول كلما اتضح المعنى وظهر السر..
والحقيقة أن التفسير الظاهري للقران الكريم وآياته يتماشى مع معتقدات و أفكار الأشخاص الذين كانوا قبل 14 عشر قرنا ولكنه لا يتماشى مع رجال هذا الزمن وأعلام الفكر الجديد وتطورات العالم الحديث لهذا فالتأويل الباطني هو السبيل الوحيد لفهم المعنى من أحكام القران الكريم لأنه وراء كل اية معنى حرفي ومعنى رقمي ومعنى روحي لا يمكن ادراكه عن طريق التفاسير الظاهرية فمن تقاعس عقله وفكره عن البحث والسؤال عن معاني المعني فيما يقرأ ويرتل ويسمع من كتاب الله تعالى واكتفى بما يملي عليه أهل التفاسير الظاهرية و هرطقاتهم في التوضيح واقتنع وشبع و تشبع به يكون كمن هو مربوط من قرنيه ينتظر الموت وهو لا يعلم أما من ارتقى من الظاهر إلى الباطن فإنه يتحرر ويعي ويتسع فكره وعقله بما يلقى في خاطره من النور والبركة فكل كلمة باطنة من كتاب الله تعالى يتلقاها قلب المريد إلا وتفتح له أبواب الفتح والنور وتملأ ادراكاته في الفهم والتمعن والحكمة ..
فالحقيقة أن التأويل الباطني لا علاقة له بالفلسفة اليونانية ولا اللاهوت في المذاهب الفلسفية الأخرى ولا علاقة للتأويل الباطني بالفيثاعورية أو الافلاطونية رغم تشبع سادتنا من هذه الفلسفات العقلية ولكن نكرر أن التأويل تنزيل على قلب المرشد أو الناطق.. ونحن نرى أن هؤلاء الفلاسفة لهم نظرة مشرقة في تحرير الفكر المتحجر وإلقاء النور في العقول المظلمة ولكن تأويل القرءان الكريم كان من نفوس أهل الله والمتنورين بنوره جل وعلا والواصلين إلى دوائر الباطن الخفي والمستمدين من دائرة الحمد حيث أن التأويل تنزيل ينزل على قلب المريد والمرشد كلما اقترب من النور وابتعد عن الفحش والظلام وهذا لا يمكن لأهل الظلام معرفته وفهمه لأنه فوق مستوى وعيهم و خارج مساحة تفكيرهم وقد يرون هذا ضربا من الخيال أو الجنون لأنه يحطم مصالحهم الشخصية و المالية و يدمر مراكزهم الدنيوية و يزعزع عقيدة المؤمنين بهم و بأقوالهم ولكنه الحقيقة التي لا يدركها إلا من اتى الله تعالى بقلب سليم ...
فرغم أن التأويل قلبي روحي إلا أن من توسع مستوى ادراكه وتفتح قلبه وعلت همته يرى أسرار في أعداد الحروف والكلمات فيفقهها ويرى نورا في مكنون السور والآيات فيعرف سرها.. فللحروف أسرار وخواص لا يعلمها إلا من رسخ في علم الحرف وفهم معناه وطبيعته ومزاجه وعدده.. والا من فهم الطبائع والأمزجة وتمعن بفهم عميق في العلوم الكونية الحقيقية.. فبسم الله الرحمن الرحيم مثلا تسعة عشر حرفا وباء سين ميم هي بداية سر مكنون الله الرحمن الرحيم.. فإن تكلمنا فقط عن سر البسملة يلزمنا مجدا لشرح خواصها وأسرارها وسرعددها..
فاعلم باركك الله تعالى أن لكل اسم من الأسماء ولكل حرف من الحروف سر لا يفقهه إلا القلة من الناس وهذه الأسرار تسلم فقط للأخيار لأنها ليست للعامة فكم من العامة يسمع الأسرار فيتسهين بها لأنها فوق مستوى تفكيره والحقيقة أن ذكر الأسرار في غير موضعها وعند غير أهلها إنقاص من قيمتها وتنزيل من قوتها وظلم لروحانيتها.. وأهل الباطن السابقين عرفوا الأسرار وأخفوها على غير أهلها لكي لا تكون الفتنة.. فلا يجوز أن يعطى السر إلا لمن بدل فيه الغالي والنفيس ورافق الشيخ وصاحبه حتى يرى فيه شيخه الصلاح والخير فيأذن له به ولا يحرمه منه.. ولا ينبغي الافصاح بالسر للكثرة من البشر بل يكون فقط للقلة الذكية والتي تملك البديهة والنور داخلها فإن آذان العامة من البشر الجهلاء بهذه الناحية لا تقدر على احتوائه وفهمه ومن ثم ليس للحكيم أن يكشف الحجاب عن الحقيقة لكل أحد بل لا يكشف عن الحقيقة وأسرارها الباطنية الملكوتية أو الجبروتية إلا لمن يتأكد من يقينه وايمانه وحفظه ما سيسمع منه..
فالأسرار الباطنية لا تسلم في المخطوطات والكتب والرسائل اللهم إلا ما كان من قواعدها ورياضتها في الأسماء والآيات لتقوية الروح والنفس أما أسرارها ولبها وزبدتها تنطق من المرشد إلى أذن المريد فيتكلم المرشد مع المريد ويلقنه ويعلمه بالجميل من القول والحكمة والمعرفة ويكرر عليه التلقين ويعطيه العبر والقصص ويشرح له بالأمثلة والبيان حتى يتضح للمريد البرهان.. أما المرشد الملقن فهو يسمى الناطق العظيم.. وهو أكبر درجة من درجات هذا الطريق المبارك..
أما من حق الشيخ الباطني على مريده السمع والطاعة فيكون الشيخ لدى المريد كالوالد والأخ والصديق فتكون تقه المريد بشيخه مطلقة لا يهزها شيء ولا يزعزعها شيء.. ويحافظ المريد على العهد مع الشيخ.. فالشيخ الباطني إن وجد في المريد النجابة والفهم أعطاه من الحكمة والعلم والقوة والأسرار ما يبهر العقل والنفس..
فان سلم الشيخ للمريد سرا من الأسرار أو فتح له بابا من الأبواب فليحمد الله تعالى ويشكره ويجازي شيخه بالخير والاحسان والدعاء الصالح..
وإن فتح الشيخ للمريد عهد مع الأنوار الربانية وسلمه من الأملاك الأرضية أو العلوية فهذا العهد لا يجب أن يفكه شيء ولا يحجبه شيء وأن يحافظ المريد على علاقته بشيخه ولا يقطعها فيضيع ويتيه.. فالمريد يجب عليه أن يحافظ على عهده إلى أن يقوم الشيخ أو المرشد باجتبائه ويفتح له الأبواب المقفلة ويطلعه على الأسرار التي تبهر العقل ويفهم العقيدة الصحيحة والفكر السليم.. ففهي علم الباطن مما يعرف المرشد حوادث العالم والمعنى الحقيقي للقران الذي هو مخفي ومحجوب عن الأشخاص الذين لم تتطهر أنفسهم.. فكتاب الله تعالى لا يمسه إلا المطهرون أي لا يفهمه ويعقله إلا من تطهرت نفسه وسمت روحه وتفتح عقله.. والعلوم الباطنية بحور لا قرار لها ولا شواطئ لها فمن دخلها فإنه سيبقى سابحا في تلك البحور مستمد من الناطق أو المرشد.. أما من قرر السباحة لوحده فالبحر عميق والعوم شاق وندعو له بالعون والسداد..