* قال تعالى : (إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) .
إن الله تعالى قضى من الأزل إلى الأبد أمرا فوق كل أمر ، وشأنا فوق كل شأن ، وإرادة فوق كل إرادة ، وقولا فوق كل قول ، وكلمته فوق كل كلمة ، وكل الوجود كلمته ، وكل الأشياء إرادته ، وكل المظاهر مشيئته ، أمره مقدس لا يتصوره أحد ، وإرادته منزهة من الأزل إلى الأبد ، وقوله محيط بكل الأقوال ، وكلمته هى سر القدرة والإرادة والأمر ، وأهل الشهود يرون سر الكلمة فى كل كائن ، ويشهدون أنوار الإرادة في كل متحرك أو ساكن ، يرون أمره في أمورهم ، وإرادته في إرادتهم ، وقوله في أقوالهم ، وشأنه في شئونهم ، وتجليات ظهوره في ظهورهم ، وآيات بطونه في بطونهم ، يرون سر البصير في أبصارهم ، وسر السميع في أسماعهم ، وسر الخلاق في خلقهم ، وسر المصور في صورهم ، وسر الأمر في جميع أمورهم ، وسر الإرادة في جميع إرادتهم . وسر كن في تكوينهم . وسر العليم في علومهم . وسر المتكلم في كلامهم ، وفي كل شيء في الأرض أو في السماء يرون فيه سر الصفات والأسماء ، وسر الآيات والتجليات ، يرون وجهه في دائرة الأمر والإرادة ، ويشهدون أنواره في أسرار معاني الشهادة ، فشهادة أن لا إله إلا الله عند الشهداء ، هي نور مظاهر الصفات والأسماء ، فلا يرون ظاهرا إلا الله ، ولا رافعا إلا الله ، ولا باطنا إلا الله ، ولا سميعا إلا الله ، ولا بصيرا إلا الله ، فكل المظاهر في الإنسان وفي الآفاق هي أواني لمعاني أسرار الخلاق ، قال تعالى : (سَنُرِيهِمْ آَيَاتِنَا فِي الْآَفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ) (فصلت : آية 53) .
وقال الإمام محمد ماضي أبو العزائم رضي الله تعالى عنه في بعض مواجيده التوحيدية :
فِي الْمَبَانِي نُورُ أَسْرَارِ الْمَعَانِي .. فَاشْهَدَنْهَا كَيْ تُجَمَّلَ بِالتَّدَانِي
وقال في مطلع قصيدة أخرى :
تِلْكَ الْمَظَاهِرُ وَالشُّئُونُ مَرَائِي .. فِيهَا يَلُوحُ لِمَنْ صَفُواْ أَسْمَائِي
فكل الأشياء نراها رموزا لأمره وإرادته ، وكنوزا لكلمته ومشيئته ، وكلمة كن هي سر الكائنات ، وهي نور الأرض والسماوات ، وهي كلمة الحق الظاهرة في جميع الخلق ، وهي سر الأسماء والصفات الظاهرة في مرائي الكائنات ، وهي سر الرحمن الظاهر في الإنسان ، وهي سر آدم وذريته ، وهي سر عيسى وحكمته ، وهي سر يحيي وحقيقته ، وهي سر كل نبي ورسالة ، وهي سر محمد صلى الله عليه وسلم خاتم النبيين ورحمته ، وهي سر كل آدمي وكرامته ، وهي سر كل ولي ودرجته ، قال تعالى : (إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آَدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) (آل عمران : آية 59) ، وليس آدم ولا عيسى هما الكلمة ، ولكن جميع الأشياء هي كلمة رب الأرض والسماء ، وكل شأن في الوجود هي كلمة الملك المعبود : (إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) .
فالسماء مرفوعة بها ، والأرض مبسوطة بنورها ، والإنسان مصور بسر أسمائها وصفاتها ، وأصل الوجود كله هو الكلمة ، والكلمة لم تزل قائمة ، وليس في الوجود سواها ، وهي شمس الحق وضحاها ، والقمر إذا تلاها ، والنهار إذا جلاها ، والليل إذا يغشاها ، وكل المُلْكِ وكل الملكوت من سرها ومعناها ، وبها تقوم الساعة ، وبها تقوم الناس من قبورها ، وبها تحشر الناس وتجمع للحساب ، وبها الفضل والعدل والفَصل ، هذا إلى دار الثواب ، وهذا إلى دار العذاب ، (إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ) أي شيء في الدنيا أو في الآخرة (يَقُولَ لَهُ) قولا منزها مقدسا عن الحرف والصوت (كُنْ فَيَكُونُ) كما أراد ، وهو الله الفعال كما يشاء بالعباد .