*88
حينما كنت أتجول بالمنتزه أتفكر بمخلوقات الله وأستغرق بتجلياته سبحانه, سمعت نعيق غراب يصيح,
قلت: ويحك يا ظلامي صمتك أجمل٬ جريت وراءه فكان يقفز وينعق وما صمت, رميته بالحجارة وما صمت
.
لاحقته من جديد فكان يطير وينعق، فلاحقته ومن دون دراية مني وجدت نفسي فوق الشجرة، فأكملت سعيي أتسلق وأرتفع ما بين جذع وجذع والناس بالأسفل تراقب وتلتقط الصور، كنت ببراءة الطفل أتسلق وألعب حتى عليت الى اعلى قمة الشجرة، فإذ بي أختفي عن أنظار الناس والحواس, وإذ بالغراب بالقرب مني ينعق فوجدتني أحضن بذراع الشجرة فتوحدت بها وكأنني ثمرتها، لحظتها صمت الغراب فجأة وبسكون غريب نظرنا لبعضنا البعض نظر الواحد للواحد وإذ بي انظر لنفسي من عيونه وقلت لنفسي حينما يتحول صوت نعيق الغراب لألحان كونية سبوحية جميلة حينها فقط ستعرفنى ...
التأويل ....
حينما كنت أتجول بالمتنزه: أتجول بالدنيا وأتفكر بألوانها وأوهامها. والتفكر هو روح العبادة و شرارة الانعتاق من ربقة حجب المخلوقات للتعرف والتقرب من مبدا الخلق ومعيده...
.
سمعت نعيق غراب يصيح: الغراب يمثل ظلمانية الدنيا الدنية وأحوالها التي تزعج إستقرارنا وتمحق سكينتنا ويمثل الوساوس الشيطانية و خواطر النفس الامارة واللوامة وكلها تعمل على تشتيت انتباهنا اثناء سيرنا في طريق الحق.وكلما لاحقت الدنيا لم أجد منها شئ يملئ فراغي الداخلي لانها وهم وسراب وانتظار لغائب وتعلق بمفقود.
وجدت نفسي فوق الشجرة: بعد المرور بالأحوال الجلالية العاصفة ومصاعب الحياة الظلمانية وجدت نفسي أتسلق اصل شجرة الاكوان وهي الشجرة المحمدية وهي شجرة الترقي في مجاهدات النفس ومكابدة اهوائها. فكانت صراطي المستقيم و كانت اغصانها مطية لي للترقي من جذع مقام لمقام أعلى
.
الناس بالأسفل تراقب وتلتقط الصور: فالناس من عادتها حب المشاهدة والكلام بدل من التسلق والمجاهدة والتقاط الصور بتصوير الأمور على حسب إعتقادهم وليست كما هي عليه. ولذا فهم في اسفل السافلين وبصور الاكوان محجوبين. فكنت على الفطرة التي فطرت عليها وهو مقام براءة النفس وسلامة الصدر واللامبالاة لاحكام الاخرين وصورهم وتصوراتهم. ألعب كالطفل وأمرح حتى علوت لمقام لا يدركه البشر فأختفيت عن أنظارهم وحواسهم لأن الحقيقة المطلقة لا تدركها الحواس المقيدة.
وإذ بغراب الدنيا تلتهب لطماتها وقسوتها لشدة قربي له وبعدي عنها, فوصلت مقام الحضن والتوحد مع شجرة الحياة والوجود بلا حول ولا قوة مني بل بفضل الله لحظة تقبلي للجمال والجلال وتجردي من الاحكام.
فصرت ثمرتها كما كنت منذ الازل لأن الأنسان الأصيل هو غاية الخلق وثمرة الوجود، فصمت كل شئ لحظتها لتوحد كل شئ بكل شئ ولان الذوق لا يدرك بالكلام حين ترى العين ما وراء الوراء ويذوق القلب من الانوار والتجليات ما يتجاوز قالبه الطيني فستتبدل الارض غير الارض والسماء غير السماء وترتقي الروح النورانية حيث لا عين رات ولا اذن سمعت ولا خطر على قلب بشر.
فنظرت لنفسي من خلال مرأة الخلق مخاطبا ذاتي لن تعرفني حقاً إلا حينما تري الحب المطلق والجمال المطلق في كل شئ حتى في الكره والقبح وتري النور من وراء الظلام..
المصدر
(الجميل محمد الغوشى)..*88