المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : التأويل الباطني لسورة البقرة


أبو شاهين
03-03-2021, 02:54
سورة البقرة
(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)
(الم (1) ذلِكَ الْكِتابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ (2))

(الم* ذلِكَ الْكِتابُ) أشار بهذه الحروف الثلاثة إلى كلّ الوجود من حيث هو كلّ لأن (ا) إشارة إلى ذات الذي هو أوّل الوجود على ما مرّ. و (ل) إلى العقل الفعّال المسمّى جبريل ، وهو أوسط الوجود الذي يستفيض من المبدأ ويفيض إلى المنتهى. و (م) إلى محمد الذي هو آخر الوجود تتمّ به دائرته وتتصل بأوّلها ، ولهذا ختم وقال : «إنّ الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السموات والأرض».

وعن بعض السلف أن (ل) ركبت من ألفين ، أي : وضعت بإزاء الذات مع صفة العلم اللذين هما عالمان من العوالم الثلاثة الإلهية التي أشرنا إليها ، فهو اسم من أسماء الله تعالى ، إذ كل اسم هو عبارة عن الذات مع صفة ما. وأمّا (م) فهي إشارة إلى الذات مع جميع الصفات والأفعال التي احتجبت بها في الصورة المحمدية التي هي اسم الله الأعظم ، بحيث لا يعرفها إلا من يعرفها. ألا تدري أن (م) التي هي صورة الذات كيف احتجب فيها ، فإن الميم فيها الياء ، وفي الياء ألف. والسرّ في وضع حروف التهجي هو أن لا حرف إلا وفيه ألف ، ويقرب من هذا قول من قال : معناه القسم بالله العليم الحكيم ، إذ جبريل مظهر العلم ، فهو اسمه العليم. ومحمد مظهر الحكمة ، فهو اسمه الحكيم.

ومن هذا ظهر معنى قول من قال : تحت كلّ اسم من أسمائه تعالى أسماء بغير نهاية. والعلم لا يتمّ ولا يكمل إلا إذا قرن بالفعل في عالم الحكمة الذي هو عالم الأسباب والمسببات ، فيصير حكمة. ومن ثم لا يحصل الإسلام بمجرّد قول : لا إله إلا الله ، إلا إذا قرن : بمحمد رسول الله.

فمعنى الآية (الم* ذلِكَ الْكِتابُ) الموعود ، أي : صورة الكلّ المومى إليها بكتاب الجفر والجامعة المشتملة على كل شيء ، الموعود بأنه يكون مع المهدي في آخر الزمان لا يقرأه كما هو بالحقيقة إلا هو ، والجفر لوح القضاء الذي هو عقل الكلّ والجامعة لوح القدر الذي هو نفس الكلّ ، فمعنى كتاب الجفر والجامعة : المحتويان على كلّ ما كان ويكون ، كقولك سورة (البقرة) وسورة (النمل).

(لا رَيْبَ فِيهِ) عند التحقيق بأنه الحق ، وعلى تقدير القول معناه بالحق الذي هو الكلّ

من حيث هو كلّ لأنه مبين لذلك الكتاب الموعود على ألسنة الأنبياء وفي كتبهم بأنه سيأتي كما قال عيسى عليه‌السلام : «نحن نأتيكم بالتنزيل ، وأما التأويل فسيأتي به المهديّ في آخر الزمان». وحذف جواب القسم لدلالة ذلك الكتاب عليه ، كما حذف في غير موضع من القرآن مثل (والشمس) (والنازعات) وغير ذلك. أي إنّا منزلون لذلك الكتاب الموعود في التوراة والإنجيل بأن يكون مع محمد حذف لدلالة قوله : (ذلِكَ الْكِتابُ) عليه أي : ذلك الكتاب المعلوم في العلم السابق ، الموعود في التوراة والإنجيل حق بحيث لا مجال للريب فيه. (هُدىً لِلْمُتَّقِينَ) أي هدى في نفسه للذين يتقون الرذائل والحجب المانعة لقبول الحق فيه.

واعلم أن الناس بحسب العاقبة سبعة أصناف لأنهم : إمّا سعداء ، وإمّا أشقياء. قال الله تعالى : فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ) ) ، والأشقياء أصحاب الشمال ، والسعداء إمّا أصحاب اليمين ، وإمّا السابقون المقرّبون. قال الله تعالى : (وَكُنْتُمْ أَزْواجاً ثَلاثَةً) .
وأصحاب الشمال إمّا المطرودون الذين حقّ عليهم القول وهم أهل الظلمة والحجاب الكلي المختوم على قلوبهم أزلا ، كما قال تعالى : (وَلَقَدْ ذَرَأْنا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ) .

وفي الحديث الربانيّ : «هؤلاء خلقتهم للنار ولا أبالي». وأما المنافقون الذين كانوا مستعدّين في الأصل ، قابلين للتنوّر بحسب الفطرة والنشأة ، ولكن احتجبت قلوبهم بالرين المستفاد من اكتساب الرذائل وارتكاب المعاصي ، ومباشرة الأعمال البهيمية ، والسبعية ، ومزاولة المكايد الشيطانية ، حتى رسخت الهيئات الفاسقة والملكات المظلمة في نفوسهم ، وارتكمت على أفئدتهم فبقوا شاكين حيارى تائهين ، قد حبطت أعمالهم ، وانتكست رؤوسهم فهم أشدّ عذابا وأسوأ حالا من الفريق الأول لمنافاة مسكة استعدادهم لحالهم. والفريقان هم أهل الدنيا وأصحاب اليمين.

أما أهل الفضل والثواب ، الذين آمنوا وعملوا الصالحات للجنة راجين لها ، راضين بها ، فوجدوا ما عملوا حاضرا على تفاوت درجاتهم ، ولكلّ درجات مما عملوا. ومنهم أهل الرحمة الباقون على سلامة نفوسهم ، وصفاء قلوبهم ، المتبوّؤن درجات الجنة على حسب استعداداتهم من فضل ربهم ، لا على حسب كمالاتهم من ميراث عملهم.
وأما أهل العفو الذين خلطوا عملا صالحا وآخر سيئا ، وهم قسمان : المعفوّ عنهم رأسا لقوة اعتقادهم ، وعدم رسوخ سيئاتهم لقلّة مزاولتهم إياها ، أو لمكان توبتهم عنها. فأولئك يبدّل الله سيئاتهم حسنات ، والمعذبون حينا بحسب ما رسخ فيهم من المعاصي حتى خلصوا عن درن ما كسبوا ، فنجوا وهم أهل العدل والعقاب ، والذين ظلموا من هؤلاء سيصيبهم سيئات ما كسبوا. لكن الرحمة تتداركهم وثلاثتهم أهل الآخرة.

والسابقون إمّا محبون وإمّا محبوبون ، فالمحبون هم الذين جاهدوا في الله حقّ جهاده ، وأنابوا إليه حقّ إنابته ، فهداهم سبله. والمحبوبون هم أهل العناية الأزلية الذين اجتباهم وهداهم إلى صراط مستقيم. والصنفان هما أهل الله ، فالقرآن ليس هدى للفريق الأول من الأشقياء لامتناع قبولهم للهداية لعدم استعدادهم ، ولا للثاني لزوال استعدادهم ومسخهم وطمسهم بالكلية بفساد اعتقادهم ، فهم أهل الخلود في النار إلا ما شاء الله. فبقي هدى للخمسة الأخيرة الذين يشملهم المتقون ، والمحبوب يحتاج إلى هداية الكتاب بعد الجذب والوصول لسلوكه في الله لقوله تعالى لحبيبه كذلك : (كَذلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤادَكَ) ، وقوله : (وَكُلًّا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْباءِ الرُّسُلِ ما نُثَبِّتُ بِهِ فُؤادَكَ) . والمحبّ يحتاج إليه قبل الوصول والجذب وبعده لسلوكه إلى الله وفي الله.

فعلى هذا ، المتقون في هذا الموضع هم المستعدّون الذين بقوا على فطرتهم الأصلية ، واجتنبوا رين الشرك والشك لصفاء قلوبهم وزكاء نفوسهم ، وبقاء نورهم الفطري ، فلم ينقضوا عهد الله. وهذه التقوى مقدّمة على الإيمان ، ولها مراتب أخرى متأخرة عنه كما سيأتي إن شاء الله.

(الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ) أي : بما غاب عنهم الإيمان التقليديّ ، أو التحقيقيّ العلميّ ، فإنّ الإيمان قسمان : تقليديّ وتحقيقيّ. والتحقيقيّ قسمان : استدلالي وكشفيّ ، وكلاهما إمّا واقف على حدّ العلم والغيب ، وإما غير واقف. والأول هو الإيقان المسمّى علم اليقين. والثاني : إمّا عيني ، وهو المشاهدة المسمى عين اليقين ، وإما حقّي ، وهو الشهود الذاتي المسمّى حق اليقين. والقسمان الأخيران لا يدخلان تحت الإيمان بالغيب ، والإيمان بالغيب يستلزم الأعمال القلبية التي هي التزكية ، وهي تطهير القلب عن الميل إلى السعادات البدنية الخارجية ، الشاغلة عن إحراز السعادة الباقية. فإن السعادات ثلاث : قلبية ، وبدنية ، وما حول البدن. فالقلبية هي المعارف ، والحكم ، والكمالات العلمية والعملية الخلقية. والبدنية هي الصحة والقوّة واللذّات الجسمانية والشهوات الطبيعية. وما حول البدن هي الأموال والأسباب ، كما قال أمير المؤمنين عليه‌السلام : «ألا وأنّ من النعم سعة المال ، وأفضل من سعة المال صحة الجسد ، وتقوى القلب».

ويجب الاحتراز عن الأوليين لإحراز الأخيرة المطلوبة بالزهد والعبادة. فإقامة الصلاة ترك الراحات البدنية وإتعاب الآلات الجسدية ، وهي أمّ العبادات التي إذا وجدت لم يتأخر عنها البواقي (إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ) إذ هي تحامل على البدن والنفس ، ومشقة فادحة عليهما ، وإنفاق المال هو الإعراض عن السعادة الخارجية المحبوبة إلى النفس المسمّى بالزهد ، فإن الإنفاق ربما كان أشدّ عليها من بذل الروح للزوم الشحّ إياها ، ولم يكتف بالقدر الواجب فقال : (وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ) ليعتاد القلب ترك الفضول المالية بالجود والسخاء وبذل المال ، في وجوه المروّات ، والهبات ، والصدقات الغير الواجبة ، فيوقي شحّ نفسه ، وخصص الإنفاق بالبعض بإيراد من التبعيضية لئلا يقع في رذيلة التبذير ببذل القدر الضروري فيحرم فضيلة الجود الذي هو من باب التخلق بأخلاق الله.


(وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ) أي : الإيمان التحقيقيّ الشامل للأقسام الثلاثة المستلزم للأعمال القلبية التي هي التحلية ، وهي تفرّس القلب بالحكم والمعارف المنزّلة في الكتب الإلهية والعلوم المتعلقة بأحوال المعاد ، وأمور الآخرة ، وحقائق علم القدس. ولهذا قال : (وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ) وأهل الآخرة الذين ما جاوزوا حدّ التزكية ، ولم يصلوا إلى التحلية التي هي ميراثها ، لقوله عليه‌السلام : «من عمل بما علم ورّثه الله علم ما لم يعلم».

وأهل الله الموقنون الجامعون لها كلهم على هدى من ربهم إمّا إليه وإما إلى داره ، دار السلامة والفضل والثواب واللطف ، وهم أهل الفلاح لا غير أما من العقاب وأما من الحجاب ولهذا قال : (أُولئِكَ) أي : الموصوفون بهذه الصفات المذكورة من التزكية والتحلية. (عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) لأجلها ، فعلى هذا الذين يؤمنون مبتدأ ، والذين يؤمنون الثاني معطوف عليه ، وأولئك خبره ، ولو جعل صفة للمتقين لكان المراد بهم الكاملين في التقوى بعد الهداية. وكان مجازا من باب تسمية الشيء بما سيؤول إليه.

(إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (6) خَتَمَ اللهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَعَلى سَمْعِهِمْ وَعَلى أَبْصارِهِمْ غِشاوَةٌ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ (7)) هم الفريق الأول من الأشقياء الذين هم أهل القهر الإلهي لا ينجح فيهم الإنذار ولا سبيل إلى خلاصهم من النار ، أولئك حقّت عليهم كلمة ربّك أنهم لا يؤمنون ، وكذلك حقّت كلمة ربك على الذين كفروا أنهم أصحاب النار ، سدّت عليهم الطرق ، وأغلقت عليهم الأبواب ، إذ القلب هو المشعر الإلهيّ الذي هو محلّ الإلهام ، فحجبوا عنه بختمه. والسمع والبصر هما المشعران الإنسيان ، أي الظاهران اللذان هما بابا الفهم والاعتبار ، فحرموا عن جدواهما لامتناع نفوذ المعنى فيهما إلى القلب ، فلا سبيل لهم في الباطن إلى العلم الذوقيّ الكشفيّ ولا في الظاهر إلى العلم التعلميّ والكسبيّ ، فحبسوا في سجون الظلمات ، فما أعظم عذابهم.


(وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا) هم الفريق الثاني من الأشقياء ، سلب عنهم الإيمان مع ادّعائهم له بقولهم (آمَنَّا بِاللهِ) لأنّ محلّ الإيمان هو القلب لا اللسان. (قالَتِ الْأَعْرابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمانُ فِي قُلُوبِكُمْ).

ومعنى قولهم : آمنا بالله (وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ) ادّعاء علمي التوحيد والمعاد اللذين هما أصل الدين وأساسه أي لسنا من المشركين المحجوبين عن الحق ولا من أهل الكتاب المحجوزين عن الدين والمعاد ، لأن اعتقاد أهل الكتاب في باب المعاد ليس مطابقا للحق. واعلم أن الكفر هو الاحتجاب ، والحجاب إما عن الحق كما للمشركين وإمّا عن الدين كما لأهل الكتاب ، والمحجوب عن الحق محجوب عن الدين الذي هو طريق الوصول إليه ضرورة ، وأما المحجوب عن الدين فقد لا يحجب عن الحق ، فهؤلاء ادّعوا رفع الحجابين معا فكذبوا بسلب الإيمان عن ذواتهم ، أي ليسوا بمؤمنين ما داموا إياهم يخادعون. المخادعة استعمال الخدع من الجانبين ، وهو إظهار الخير واستبطان الشرّ. ومخادعة الله مخادعة رسوله صلى‌الله‌عليه ‌وسلم .

(فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ) أي شك ونفاق تنكير المرض. وإيراد الجملة الظرفية إشارة إلى عروض المرض واستقراره ورسوخه ، وإلا لقال قلوبهم مرضى أو موتى. (فَزادَهُمُ اللهُ مَرَضاً) أي : آخر حقدا وحسدا وغلا بإعلاء كلمة الدين ، ونصرة الرسول والمؤمنين ، والرذائل كلها أمراض القلوب لأنها أسباب ضعفها وآفتها في أفعالها الخاصة ، وهلاكها في العاقبة. وفرق بين العذابين بالألم للمنافقين ، والعظم للكافرين ، لأن عذاب المطرودين في الأزل أعظم فلا يجدون شدّة ألمه لعدم صفاء إدراك قلوبهم ، كحال العضو الميت ، أو المفلوج والخدل بالنسبة إلى ما يجري عليه من القطع والكيّ وغير ذلك من الآلام. وأما المنافقون فلثبوت استعدادهم في الأصل وبقاء إدراكهم يجدون شدّة الألم فلا جرم كان عذابهم مؤلما مسببا عن المرض العارض المزمن الذي هو الكذب ولواحقه.

وإذا نهوا عن الإفساد في الأرض ، أي في الجهة السفلية التي هي النفوس وما يتعلق بها من المصالح بتكدير النفوس ، وتهييج الفتن والحروب ، والعداوة والبغضاء بين الناس ، أنكروا وبالغوا في إثبات الإصلاح لأنفسهم ، إذ يرون الصلاح في تحصيل المعاش وتيسير أسبابه ، وتنظيم أمور الدنيا لأنفسهم خاصة ، لتوغلهم في محبة الدنيا وانهماكهم في اللذات البدنية ، واحتجابهم بالمنافع الجزئية ، والملاذ الحسيّة عن المصالح العامة الكليّة ، واللذات العقلية ، وبذلك يتيسر مرادهم ، ويتسهل مطلوبهم وهم لا يحسون بإفسادهم المدرك بالحس.


وإذا دعوا إلى الإيمان الحقيقي ، كإيمان فقراء المسلمين والصعاليك المجرّدين ، سفهوهم لمكان تركهم لحطام الدنيا وإعراضهم عن متاعها ولذاتها وطيباتها ، لزهدهم الحقيقي. إذ قصارى همومهم ، وقصوى مقاصد عقولهم الأسيرة في قيد الهوى المشوبة بالوهم ، المؤدّية إلى الردى هي تلك اللذات يعلمون ظاهرا من الحياة الدنيا وهم عن الآخرة هم غافلون ، ولا يعلمون أن غاية السفه هو اختيار الفاني الأخس على الباقي الأشرف. وفرق بين الفاصلتين بالشعور والعلم ، لأنّ تأثير خداعهم في أنفسهم وإفسادهم في الأرض أمر بين كالمحسوس.
وأما ترجيح نعيم الآخرة على نعيم الدنيا المستلزم للفرق بين السفه والحكمة فأمر استدلالي عقليّ صرف.


(وَإِذا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا) حكاية لنفاقهم اللازم لحصول استعدادين فيهم الفطريّ النوريّ ، الضعيف المغلوب ، القريب من الانطفاء ، الذي ناسبوا به المؤمنين ، والكسبيّ الظلماني القويّ الغالب الذي تألفوا به الكفار ، إذ لو لم يكن فيهم أدنى نور لم يقدروا على مخالطة المؤمنين ومصاحبتهم أصلا كغيرهم من الكفار لتسافي الضروري بين النور والظلمة من جميع الوجوه.
والشيطان فيعال من الشطون ، الذي هو البعد ، وشياطينهم المتعمقون في البعد وهم المطرودون ، ورؤساؤهم البالغون في النفاق واستهزاؤهم بالمؤمنين يدلّ على ضعف جهة النور وقوّة جهة الظلمة فيهم ، إذ المستخف بالشيء هو الذي يجد ذلك الشيء في نفسه خفيفا ، قليل الوزن والقدر. فهم يستخفون النورانيين لخفة النور عندهم ، إذ بالنور يعرف قدر النور ، وبرجحان الظلمة فيهم أووا إلى الكفار وألفوهم.


(اللهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ) أي : يستخفهم ، لأن الجهة التي هم بها ناسبوا الحضرة الإلهية فيهم خفيفة ، ضعيفة. فبقدر ما فنيت فيهم الجهة الإلهية ثبتوا عند أنفسهم ، كما أنّ المؤمنين بقدر ما فنيت فيهم أينيتهم النفسانية وجدوا عند الله شتان بين المرتبتين. (وَيَمُدُّهُمْ) في ظلماتهم البهيمية والسبعية التي هي الصفات الشيطانية والنفسانية بتهيئة موادّها وأسبابها التي هي مشتهياتهم ومستلذاتهم وأموالهم ومعايشهم من الدنيا التي اختاروها بهواهم في حالة كونهم متحيرين. (فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ) والعمه : عمى القلب. وطغيانهم : التعدّي عن حدّهم الذي كان ينبغي أن يكونوا عليه ، وذلك الحدّ هو الصدر ، أي وجه القلب الذي يلي النفس كما أن الفؤاد وجهه الذي يلي الروح ، فإنه متوسط بينهما ذو وجهين إليهما. والوقوف على ذلك الحدّ

(أُولئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدى) أي : الظلمة ، والاحتجاب عن طريق الحق الذي هو الدين ، أو عن الحق. فإنّ الضلالة تنقسم بإزاء الهداية بالنور الاستعداديّ الأصليّ. (فَما رَبِحَتْ تِجارَتُهُمْ) إذ كان رأس مالهم من عالم النور والبقاء ليكتسبوا به ما يجانسه من النور الفيضيّ الكماليّ ، بالعلوم والأعمال والحكم والمعارف والأخلاق والملكات الفاضلة ، فيصيرون أغنياء في الحقيقة ، مستحقين للقرب والكرامة والتعظيم والوجاهة عند الله ، فما ربحوا بكسبها وضاعت الهداية الأصلية التي كانت بضاعتهم ورأس مالهم بإزالة استعدادهم وتكدير قلوبهم بالرين الموجب للحجاب والحرمان الأبديّ ، فخسروا بالخسران السرمديّ ، أعاذنا الله من ذلك.

(مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ ناراً فَلَمَّا أَضاءَتْ ما حَوْلَهُ ذَهَبَ اللهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُماتٍ لا يُبْصِرُونَ )
(مَثَلُهُمْ) أي : صفتهم في النفاق كصفة المستوقد للإضاءة الذي إذا أضاءت ما حوله من الأشياء القريبة منه خمدت ناره وبقي متحيّرا ، لأن نور استعدادهم بمنزلة النار الموقدة ، وإضاءتها لما حولهم هي اهتداؤهم إلى مصالح معاشهم القريبة منهم دون مصالح المعاد البعيدة بالنسبة إليهم وصحبة المؤمنين وموافقتهم في الظاهر وخمودها سريعا انطفاء نورهم الاستعداديّ وسرعة زوال ما متّعوا به من دنياهم ووشك انقضائه.

(ذَهَبَ اللهُ بِنُورِهِمْ) الاستعداديّ بإمدادهم في الطغيان ، وخلاهم محجوبين عن التوفيق في ظلمات صفات النفس (لا يُبْصِرُونَ) ببصر القلب ، ووجه المخرج ولا ما ينفعهم من المعارف كمن تنطفئ ناره وهو في تيه بين أشغال وأسباب.

(صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَرْجِعُونَ (18) أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّماءِ فِيهِ ظُلُماتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ يَجْعَلُونَ أَصابِعَهُمْ فِي آذانِهِمْ مِنَ الصَّواعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ وَاللهُ مُحِيطٌ بِالْكافِرِينَ (19))
(صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ) بالحقيقة لاحتجاب قلوبهم عن نور العقل الذي به تسمع الحق وتنطق به ، وتراه في الظاهر لعدم فوائدهما ، لانسداد الطرق من تلك المشاعر إلى القلب لمكان الحجاب ، فلم يصل إليها نور القلب ليحتفظوا بفوائدها ولم ترد مدركاتها على القلب ليفهموا ويعتبروا. (فَهُمْ لا يَرْجِعُونَ) إلى الله لوجود السّدين المضروبين على قلوبهم المذكورين في قوله : (وَجَعَلْنا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا) . وفائدة التشبيه تصوير المعقول بصورة المحسوس ، ليتمثل في نفوس العامة.

ثم شبههم ثانيا بقوم أصابهم مطر فيه ظلمات ورعد وبرق ، فالمطر هو نزول الوحي الإلهي ووصول إمداد الرحمة إليهم ببركة صحبة المؤمنين ، وبقية استعدادهم مما يفيد قلوبهم أدنى لين ، وحصول النعم الظاهرة لهم بموافقتهم في الظاهر. والظلمات هي الصفات النفسانية ، والشكوك الخيالية والوهمية ، والوساوس الشيطانية مما تحيرهم وتوحشهم. والرعد هو التهديد الإلهيّ والوعيد القهريّ الوارد في القرآن والآيات والآثار المسموعة والمشاهدة مما يخوّفهم فيفيد أدنى انكسار لقلوبهم الطاغية وانهزام لنفوسهم الآبية. والبرق هو اللوامع النورية والتنبهات الروحية عند سماع الوعد وتذكير الآلاء والنعماء مما يطمعهم ويرجيهم ، فيفيدهم أدنى شوق وميل إلى الإجابة.

ومعنى (يَجْعَلُونَ أَصابِعَهُمْ فِي آذانِهِمْ مِنَ الصَّواعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ) يتشاغلون عن الفهم بالملاهي والملاعب عن سماع آيات الوعيد ، ولكي لا ينجع فيهم فيقطعهم عن اللذات الطبيعية بهمّ الآخرة ، إذ الانقطاع عن اللذات الحسيّة هو موتهم ، والله قادر عليهم ، قاطع إياهم عن تلك اللذات المألوفة بالموت الطبيعي ، قدرة المحيط بالشيء الذي لا يفوته منه ، فلا فائدة لحذرهم.

(يَكادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصارَهُمْ كُلَّما أَضاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ وَإِذا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قامُوا وَلَوْ شاءَ اللهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصارِهِمْ إِنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (20))
(يَكادُ الْبَرْقُ) أي : اللامع النوريّ (يَخْطَفُ أَبْصارَهُمْ) أي : عقولهم المحجوبة بالنعاس عن نور الهداية والكشف ، إذ العقل بصر القلب (كُلَّما أَضاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ) أي : ترقوا وقربوا من قبول الحق والهدى ، (وَإِذا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قامُوا) أي : ثبتوا على حيرتهم في ظلمتهم (وَلَوْ شاءَ اللهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصارِهِمْ) لطمس أفهامهم وعقولهم ، ومحا نور استعدادهم ، كما للفريق الأول فلم يتأثروا بسماع الوحي أصلا (إِنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) الشيء الموجود الخارجيّ الواجب والممكن ، والموجود الذهني الممكن والممتنع ، إذ اللاشيء هو المعدوم الصرف الذي ليس في الذهن ولا في الخارج ، لكن تعلق القدرة به خصصه بالممكن وأخرج عنه الواجب والممتنع بدليل العقل.

(يا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (21) الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِراشاً وَالسَّماءَ بِناءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَراتِ رِزْقاً لَكُمْ فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْداداً وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (22) وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنا عَلى عَبْدِنا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَداءَكُمْ مِنْ دُونِ اللهِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (23) فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكافِرِينَ (24))

(يا أَيُّهَا النَّاسُ) ثم لما فرغ من ذكر السعداء والأشقياء ، دعاهم إلى التوحيد. وأوّل مراتب التوحيد : توحيد الأفعال ، فلهذا علّق العبودية بالربوبية ليستأنسوا برؤية النعمة ، فيحبوه ، كما قال : «خلقت الخلق وتحببت إليهم بالنعم». فيشكروه بإزائها ، إذ العبادة شكر فلا تكون إلا في مقابلة النعمة ، وخصص ربوبيته بهم ليخصوا عبادتهم به ، وقصد رفع الحجاب الأول من الحجب الثلاثة التي هي حجب الأفعال والصفات والذات ، ببيان تجلي الأفعال لأن الخلق في الثلاثة كلهم محجوبون عن الحق بالكون مطلقا ، فنسب إنشاءهم وإنشاء ما توقف عليه وجودهم من المبادئ والأسباب والشرائط كمن قبلهم من الآباء والأمهات ، وجعل الأرض فراشا لهم لتكون مقرّهم ومسكنهم ، وجعل السماء بناء لتظلهم ، وأنزل الماء من السماء وأخرج النبات به من الأرض ليكون رزقا لهم إلى نفسه لعلهم يتقون نسبة الفعل إلى غيره ، فيتنزهون عن الشرك في الأفعال عند مشاهدة جميعها من الله ، ولهذا ذكر نتيجة هذه المقدّمات بالفاء فقال : (فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْداداً وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ) ، ما ذكرنا من المقدمات كأنه قال : هو الذي فعل هذه الأفعال ، فلا تحق العبادة إلا له ، ولا تنبغي أن تجعل لغيره ، فلا تجعلوا له ندّا بنسبة الفعل إليه ، فيستحق أن يعبد عندكم فتعبدوه مع علمكم بهذا. فعبادتهم إنما هي
للصانع ، وربهم هو المتجلّي في صورة الصنع ، إذ كل عابد لا يعبد إلا ما يعرفه ، ولا يعرف الله إلا بقدر ما وجد من الألوهية في نفسه ، وهم ما وجدوا إلا الفاعل المختار فعبدوه. وغاية هذه العبادة الوصول إلى الجنّة التي هي كمال عالم الأفعال ، فالله مهد لهم أراضي نفوسهم ، وبنى عليها سموات أرواحهم ، وأنزل من تلك السموات ماء علم توحيد الأفعال ، فأخرج به من تلك الأرض نبات الاستسلام والأعمال والطاعات والأخلاق الحسنة ليرزق قلوبهم منها ثمرات الإيقان والأحوال والمقامات ، كالصبر والشكر والتوكل.

ولما أثبت التوحيد ، استدل على إثبات النبوّة ليصح بهما الإسلام ، فإنه لا يصح إلا بشهادتين لأن مجرّد التوحيد هو الاحتجاب بالجمع عن التفصيل وهو محض الجبر المؤدّي إلى الزندقة والإباحة ، ومجرّد إسناد الفعل والقول إلى الرسول ، احتجاب بالتفصيل عن الجمع الذي هو صرف القدر المؤدّي إلى المجوسية والثنوية ، والإسلام طريق بينهما بالجمع بين قولنا : لا إله إلا الله ، وبين قولنا : محمد رسول الله ، واعتقاد مظهريته لأفعاله تعالى. فإن أفعال الخلق بالنسبة إلى أفعال الحق كالجسد بالنسبة إلى الروح ، فكما أن مصدر الفعل هو الروح ولا يتم إلا بالجسد ، فكذلك مبدئ الفعل هو الحق ولا يظهر إلا بالخلق. ولا بدّ من الرسالة لأن الخلق بسبب احتجابهم وبعدهم عن الحق لا يمكنهم تلقي المعارف من ربهم ، فيجب وجود واسطة يجانس بروحه الشاهدة للحق الحضرة الإلهية ، وبنفسه المخالطة للخلق الرتبة البشرية ، ليتلقى قلبه من روحه الكلمات الربانية ، ويلقي إلى نفسه القدسية ، ويقبل منه الخلق برابطة الجنسية فقال : (وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنا) أي : في تنزيلنا على محمد فتشكوا في حقيقة نبوّته ، فروزوا قواكم البشرية ، وأحرزوا عقولكم المحتنكة بالقياس ، المحجوبة عن نور الهداية ، وأفكاركم الدريّة بتركيب الكلام ونظم المعاني ، وأنتم ومن حضركم من أبناء جنسكم ، هل تقدرون على الإتيان بسورة أي : طائفة من الكلام مثله (إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) في نسبته إلى محمد ، (فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا) فأذعنوا وأسلموا وآمنوا ، واتركوا العناد المفضي بكم إلى النار.

فحذف الملزوم الذي هو الإيمان أو الإسلام ، وأقام لازمه الذي هو اتقاء النار مقامه ليكون أدلّ على أن الإنكار موجب لدخول النار وحصول العذاب لهم. وقوله : (وَلَنْ تَفْعَلُوا) اعتراض على طريق الإخبار بالغيب للعلم بامتناع عقول المحجوبين عن مثله. والمراد بالنار احتراقهم بثورة نفوسهم ، وشرر طباعهم المصروفة عن الروح القدسيّ الروحانيّ ، والنسيم الذوقيّ الرحمانيّ ، المحرومة عن لذّة برد اليقين ، وسلامة دار القرار المقطوعة بالمألوفات الحسيّة ، واللذات البدنيّة الممنوعة ، بما ضريت به وألفته مع بقاء حنينها إليه وولهها ، ورسوخ

هيئات التعلّق بالأمور السفليّة ، ومحبة الأجساد الأرضية فيها التي هي سبب استيقاد نيرانها ، ولهذا قال : (وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجارَةُ) أي : الأمور الجاسية ، السفلية ، الصامتة ، التي تعلقوا بها بالمحبة فرسخت صورها في أنفسهم ، وسجنت نفوسهم بميلهم إليها ، كما قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌ وسلم : «المرء يحشر مع من أحبّ حتى لو أحبّ أحدكم حجرا حشر معه» ، وكيف لا ، وقد ركزت صورته في نفسه بالمحبة بحيث صار صورة قلبه صورته.

واعلم أن حرارة النار تابعة لصورتها النوعية التي هي روحانيتها وملكوتها ، وإلّا ساوت سائر الأجسام في خواصها ، وتلك الروحانية شرر من نار ، قهر الله المعنوية بعد تنزلها في مراتب كثيرة كتنزلها في مرتبة النفس بثورة الغضب ، إذ ربما تؤثر ثورة الغضب في إحراق الأخلاق ما لا تؤثر النار في الحطب. ومن هذا يعلم أن كل مسخن لا يجب أن يكون حارّا.
وإذا كانت النار الجسمانية أثرا للنار الروحانية ، فلا جرم أنّ إيلامها أشدّ وأدوم من إيلام هذه النار ، كيف وكل قوّة جسمانية متناهية دون القوى الروحانية؟ ، ولهذا المعنى يقال : إن نار جهنم غسلت بالماء سبعين مرّة ، ثم أنزلت إلى الدنيا ليمكن الانتفاع بها (أُعِدَّتْ لِلْكافِرِينَ) المحجوبين عن الدين لانقطاعهم دون مرادهم.

(وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ كُلَّما رُزِقُوا مِنْها مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقاً قالُوا هذَا الَّذِي رُزِقْنا مِنْ قَبْلُ وَأُتُوا بِهِ مُتَشابِهاً وَلَهُمْ فِيها أَزْواجٌ مُطَهَّرَةٌ وَهُمْ فِيها خالِدُونَ (25))
(وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا) بالصانع وعملوا ما يصلحهم للجنة بمقتضى علمهم بتوحيد الأفعال إن لهم مراداتهم ومشتهياتهم فوق ما تصوّروا وتمنوا ، لتنكير الجنات ، والجنات الجارية من تحتها الأنهار أبهى وأطيب ما يكون من مقام ، وألذّ وأحلى ما يكون من مرام لأهل الدنيا ، فهي لنفوسهم من جنس جنات الدنيا ، وأصفى منها بحسب المعاد الجسمانيّ ، فإنه حق كما ستعلم. (كُلَّما رُزِقُوا مِنْها مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقاً قالُوا هذَا الَّذِي رُزِقْنا مِنْ قَبْلُ) في الدنيا ، فإنها مألوفهم (وَأُتُوا) بالرزق (مُتَشابِهاً) ولقلوبهم (1) هي مقاماتهم ، كالتوكل مثلا ، وروضات عالم القدوس التي تنشأ من كل مرتبة منها أنهار علوم تنفع السالكين ، وتنفع علّة المتعطشين المشتاقين. والثمرات هي الحكم والمعارف ، وقولهم : (هذَا الَّذِي رُزِقْنا مِنْ قَبْلُ) إشارة إلى أن تلك العلوم والحكم كانت ثابتة للقلب حالة التجرّد ، فاحتجبت عنها بالتوغل في الأمور الطبيعية عند التعلق فنسيتها ، ثم تذكرت حين تجرّدت عن ملابسها لقوله عليه الصلاة والسلام : «الحكمة ضالة المؤمن». والأزواج لنفوسهم الحور العين المطهرّة عن الطمث والفواحش ،


(إِنَّ اللهَ لا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلاً ما بَعُوضَةً فَما فَوْقَها فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَيَقُولُونَ ما ذا أَرادَ اللهُ بِهذا مَثَلاً يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً وَما يُضِلُّ بِهِ إِلاَّ الْفاسِقِينَ (26))
(إِنَّ اللهَ لا يَسْتَحْيِي) لا يمتنع امتناع المستحيي (أَنْ يَضْرِبَ مَثَلاً ما بَعُوضَةً فَما فَوْقَها) إذ الكافر عنده أحقر من بعوضة ، والدنيا من جناحها ، كما نطق به الحديث. (أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ) لمناسبة الممثل به الممثل له (وَما يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفاسِقِينَ) الذين خرجوا من مقام القلب إلى مقام النفس ، ومن طاعة الرحمن إلى طاعة الشيطان. وهم الفريق الثاني من الأشقياء لا الفريق الأول ، فإنهم ضالون في نفس الأمر على أيّ حال كان لا به ولا بسبب آخر. وإضلالهم به مسبّب عن فسقهم في الحقيقة ، إذ ترتيب الحكم على الوصف يشعر بالعليّة وهي زيادة عنادهم وإنكارهم وحقدهم وغلبة صفات نفوسهم على قلوبهم بورود القرآن فيزيدهم بعدا وظلمة على ظلمة.

(الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللهِ مِنْ بَعْدِ مِيثاقِهِ وَيَقْطَعُونَ ما أَمَرَ اللهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ (27))
(الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللهِ مِنْ بَعْدِ مِيثاقِهِ) هو الذي أشار إليه في قوله : (وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قالُوا بَلى). وقد ورد في الحديث : «أن الله تعالى مسح ظهر آدم بيده وأخرج ذريّته منه كهيئة الذرّ» ... الحديث. فيد الله هو العقل الأقدس ، والروح الأول الذي هو روح العالم المسمّى يمين الرحمن ، وآدم هو النفس الناطقة الكلية التي هي قلب العالم. ومسحه ظهره تأثير العقل فيها وتنويره إياها بنوره بالاتصال الروحاني ، وإخراج ذريّته منه إيجاد النفوس الشخصية الجزئية التي كانت فيها بالقوّة ، وإخراجها إلى الفعل. وعهد الله إليهم بقوله : (أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ) إيداع علم التوحيد في ذواتهم وميثاق ذلك العهد ركز أدلة التوحيد في عقولهم وإلزام ذلك العلم إياهم وجعله من اللوازم الذاتية لهم ، بحيث إذا تجرّدوا عن الصفات النفسانية والغواشي الجسمانية تبين لهم ذلك ، وانكشف عليهم أظهر شيء وأبينه وهو إشهادهم على أنفسهم لكون ذلك العلم ضروريا حينئذ ، وإجابتهم لذلك بقولهم : (بَلى) قبولهم الذاتيّ له ، ونقض ذلك العهد انهماكهم في اللذات البدنية والغواشي الطبيعية وتعبدهم لهواهم وشهواتهم ، بحيث احتجبوا بها عن وحدة الله وتعبده ، وقطعهم ما أمر الله بوصله إعراضهم عن اتصال روح القدس والمبادئ العالية والأرواح السماوية التي هي الملأ الأعلى ، وسكان الحضرة الإلهية من أهل الجبروت والملكوت الذين يجانسونهم بذواتهم وصفاتهم ، وهم أهل قرابتهم الحقيقية ، ورحمهم الظاهر المأمور بوصله حقيقة بتوجههم إلى العالم السفليّ ومحبتهم للجواهر الفاسقة المظلمة ، وعشقهم وشغفهم بالأمور الخسيسة الفانية. ولهذا قال عليه الصلاة والسلام : «إن الله يحب معالي الأمور وأشرافها ، ويبغض سفاسفها» ، إذ كلما كان مطلوب النفس أخسّ كانت عن العالم الشريف أبعد.

(كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللهِ وَكُنْتُمْ أَمْواتاً فَأَحْياكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (28))
(كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللهِ) أي : على أيّ حال تحجبون عنه (وَ) الحال أنكم (كُنْتُمْ أَمْواتاً) نطفا في أصلاب آبائكم (فَأَحْياكُمْ) أي : لم لا تستدلون بالخلق على الخالق (ثُمَّ يُمِيتُكُمْ) بالموت الطبيعي (ثُمَّ يُحْيِيكُمْ) بالبعث ، إذ الأوّل معلوم بالمشاهدة ، والثاني بالاستدلال عليه بالإنشاء الأوّل (ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) للمجازاة ، أو ثم يميتكم عن أنفسكم بالموت الإراديّ الذي هو الفناء في الوحدة ثم يحييكم بالحياة الحقيقية التي هي البقاء بعد الفناء بالوجود الموهوب الحقانيّ. ثم إليه ترجعون للمشاهدة إن كانت الوحدة وحدة الصفات ، أو الشهود إن كانت وحدة الذات.

(هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (29))
(هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً) أي : الجهة السفليّة التي هي العالم العنصريّ جميعا لكونها مبادئ خلقكم وموادّ وجودكم وبقائكم (ثُمَّ اسْتَوى) أي : قصد قصدا مستويا إلى الجهة العلوية ، وثم للتفاوت بين الجهتين والإيجادين الإبداعيّ والتكويني لا للتراخي بين الزمانين ليلزم تقدّم خلق الأرض على السماء.
فعدّلهنّ سبع سموات بحسب ما تراه العامة ، إذ الثامن والتاسع هو الكرسيّ والعرش الظاهران. والحقيقة أنّ الجهة السفليّة هي العالم الجسمانيّ كالبدن وأعضائه لدنوّ رتبته بالنسبة إلى العالم الروحانيّ الذي هو الجهة العلوية المعبر عنها بالسماء. وثم للتفاوت بين الخلق والأمر. وسواهنّ سبع سموات إشارة إلى مراتب عالم الروحانيات ، فالأول : هو عالم الملكوت الأرضية والقوى النفسانية والجنّ. والثاني : عالم النفس. والثالث : عالم القلب. والرابع : عالم العقل. والخامس : عالم السرّ. والسادس : عالم الروح. والسابع : عالم الخفاء الذي هو السرّ الروحيّ غير السرّ القلبيّ. وإلى هذا أشار أمير المؤمنين عليه‌السلام بقوله : «سلوني عن طرق السماء ، فإني أعلم بها من طرق الأرض» ، وطرقها : الأحوال والمقامات كالزهد ، والتوكل ، والرضا ، وأمثالها.
واعلم أنّ العقل باصطلاح الحكمة هو الروح باصطلاح أهل التصوّف ، والذي سميناه هاهنا بالعقل على اصطلاح المتصوّفة هو القوّة العاقلة التي للنفس الناطقة عند الحكماء. ولهذا قالت المتصوّفة : العقل هو موضع صقيل من القلب ، متنوّر بنور الروح. والقلب هو النفس الناطقة ، فاحفظه لئلا يتشوّش الفهم باختلاف الاصطلاح.

(وَإِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قالُوا أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها وَيَسْفِكُ الدِّماءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قالَ إِنِّي أَعْلَمُ ما لا تَعْلَمُونَ (30))
(وَإِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ) إذ : إشارة إلى السرمد الذي هو من الأزل إلى الأبد ، والقول هو إلقاء معنى تعلق مشيئة الله تعالى بإيجاد آدم في الذوات القدسية الجبروتية التي هي الملائكة المقرّبون والأرواح المجرّدة والملكوتية التي هي النفوس السماوية إذ كل ما يحدث في عالم الكون له صورة قبل التكوين في عالم الروح الذي هو عالم القضاء السابق ، ثم في عالم القلب الذي هو قلب العالم المسمّى باللوح المحفوظ ، ثم في عالم النفس أي : نفس العالم الذي هو لوح المحو والإثبات المعبر عنه بالسماء الدنيا في التنزيل كما قال تعالى : (وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنا خَزائِنُهُ وَما نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ (21)) ، فذلك قوله تعالى للملائكة : (إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً) واعتبر بحالك في نفسك ، فإنّ كل ما يظهر على جوارحك التي هي عالم كونك وشهادتك من القول والفعل ، له وجود في روحك التي هي ما وراء غيب غيبك ، ثم في غيب غيبك ، ثم في نفسك التي هي غيبك الأدنى وسماؤك الدنيا ، ثم يظهر على جوارحك. والجعل أعم من الإبداع والتكوين ، فلم يقل (خالق) لأن الإنسان مركب من العالمين : خليفة يتخلق بأخلاقي ، ويتصف بأوصافي ، وينفذ أمري ، ويسوس خلقي ، ويدبر أمرهم ، ويضبط نظامهم ، ويدعوهم إلى طاعتي.
وإنكار الملائكة بقولهم : (قالُوا : أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها وَيَسْفِكُ الدِّماءَ) وتعريضهم بأولويتهم لذلك بقولهم : (وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ) هو احتجابهم عن ظهور معنى الإلهية والأوصاف الربانية فيه التي هي من خواص الهيئة الاجتماعية والتركيب الجامع للعالمين الحاصر لما في الكونين. وعلمهم بصدور الأفعال البهيمية التي هي الإفساد في الأرض ، والسبعية المعبر عنها بسفك الدماء اللتين هما من خواص قوّة الشهوة والغضب الضروري وجودهما في تعلق الروح بالبدن ، وبنزاهة ذواتهم وتقدّس نفوسهم عن ذلك ، إذ كل طبقة من الملائكة المقدّسة تطلع على ما تحتها وما في أنفسها ولا تطلع على ما فوقها ، فهي تعلم أنه لا بدّ في تعلق الروح العلوي النوراني بالبدن السفلي الظلماني من واسطة تناسب الروح من وجه ، وتناسب الجسم من وجه ، هي النفس ، وهي مأوى كل شرّ ، ومنبع كل فساد. ولا تعلم أن الجمعية الإنسانية جالبة للنور الإلهيّ الذي هو سرّ (إِنِّي أَعْلَمُ ما لا تَعْلَمُونَ) والفرق بين التسبيح والتقديس ، أن التسبيح : هو التنزيه عن الشريك والعجز والنقص. والتقديس : هو التنزيه عن التعلق بالمحل وقبول الانفعال وشوائب الإمكان والتعدّد في ذاته وصفاته وكون شيء من كمالاته بالقوة. فالتقديس أخص ، إذ كل مقدّس مسبح وليس كلّ مسبح مقدسا ، فالملائكة المقرّبون الذين هم الأرواح المجرّدة بتجرّدهم وعدم احتجابهم عن نور ربهم وقهرهم ما تحتهم بإفاضة النور عليهم ، وتأثيرهم في غيرهم ، وكون جميع كمالاتهم بالفعل مقدّسون وغيرهم من الملائكة السماوية والأرضية مسبّحون ببساطة ذواتهم وخواص أفعالهم وكمالاتهم.

(وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْماءَ كُلَّها ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلائِكَةِ فَقالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْماءِ هؤُلاءِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (31) قالُوا سُبْحانَكَ لا عِلْمَ لَنا إِلاَّ ما عَلَّمْتَنا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (32) قالَ يا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمائِهِمْ فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمائِهِمْ قالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَأَعْلَمُ ما تُبْدُونَ وَما كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ (33))

(وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْماءَ كُلَّها) أي : ألقى في قلبه خواص الأشياء التي تعرف بها هي ومنافعها ومضارّها (ثُمَّ عَرَضَهُمْ) أي : عرض مسمياتها (عَلَى الْمَلائِكَةِ) بشهودهم البنية الإنسانية ومرافقتهم لآدم في التنزيل. ومعنى قوله : (فَقالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْماءِ هؤُلاءِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) إرادته لانتعاشهم ببعض معلومات الإنسان باقتضاء التركيب الإنساني ، وتأدّي محسوساته ومعلوماته المتنوعة منها والحادثة فيه بخاصية التركيب والهيئة الاجتماعية إلى ذواتهم بعد ما لم تكن ، إذ علومهم تابعة لعلمه وهو معنى إفحامهم وتعلق إرادته بذلك أمر آدم بالإنباء إذ جميع القوى الإنسانية والملائكة التي بحضرته تنتعش بما لا تنتعش هي في غير ذلك المحل ، وهو معنى إنباء آدم إياهم.

ومعنى قوله : (قالُوا سُبْحانَكَ لا عِلْمَ لَنا إِلَّا ما عَلَّمْتَنا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ) شهادة وجوداتهم بالدلالة وألسنة الحال على قصورهم عن الكمالات الإنسانية وتخلفهم عن شأوها ، وبتنزيه الله عن فعل ما فيه مفسدة بالإجمال ، وعلمهم بامتناع ترقيهم إلى مراتبهم بكسب العلوم ، إذ كمالاتهم مقارنة لوجوداتهم ، وبأن علمه تعالى فوق علمهم فهو العليم المطلق ، والحكيم الذي لا يفعل إلا ما ينبغي. ولهذا قال : (يا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ) ولم يقل علمهم ، لأنّ العلم المكتسب الموجب للترقي هو من خاصية الجمعية الإنسانية فلا يقبل كل منها إلا ما في طباعه من جنس مدركاته لا غير ، وكما أن البصر مثلا من كثرة مبصراته لا يزيد علما ورتبة ولا يقبل إلا ما هو من جنس المبصرات فقط ، وإن تكثرت عنده فكذلك حال كل قوة باطنة. ومعنى : (أَلَمْ أَقُلْ) تقريره في طباع الملائكة أنه تعالى يعلم ما لا يعلمون من غيب السموات والأرض الذي هو سرّ المعرفة والمحبة المودع في الإنسان الذي استأثر الله بعلمه (وَأَعْلَمُ ما تُبْدُونَ) من علمكم بمفاسد الإنسان (وَما كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ) من ترجيحكم ذواتكم عليه لنزاهتها وتقدّسها.

(وَإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلاَّ إِبْلِيسَ أَبى وَاسْتَكْبَرَ وَكانَ مِنَ الْكافِرِينَ (34))
(وَإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ) سجودهم لآدم انقيادهم وتذللهم له ومطاوعتهم وتسخرهم له (فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبى وَاسْتَكْبَرَ) وإبليس هو القوة الوهمية لأنها ليست من الملائكة الأرضية الصرفة المحجوبة عن إدراك المعاني بإدراك الصور ، فيذعن بالقهر مطاوعة لأمر الله ، ولا من السماوية العقلية فتدرك شرف آدم وتوافق عقله فيذعن بالمحبة طالبا لرضا الله. وكان جنيّا : أي من جملة الملكوت السفلية والقوى الأرضية ، نشأ وتربى بين ظهور الملائكة السماوية لإدراكه المعاني الجزئية وترقيه إلى الأفق العقليّ ولهذا كان في الحيوانات العجم بمنزلة العقل في الإنسان وإباؤه عدم انقياده للعقل ، وامتناعه لقبول حكمه ، واستكباره تفوّقه على الخلقة الطينية والملائكة السماوية والأرضية بعدم وقوفه على حدّه من إدراك المعاني الجزئية المتعلقة بالمحسوسات وتعدّيه عن طوره بخوضه في المعاني العقلية والأحكام الكلية. (وَكانَ مِنَ الْكافِرِينَ) المحجوبين في الأزل عن الأنوار العقلية والزوجية فضلا عن نور الوحدة.

(وَقُلْنا يا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلا مِنْها رَغَداً حَيْثُ شِئْتُما وَلا تَقْرَبا هذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونا مِنَ الظَّالِمِينَ (35))
(وَقُلْنا يا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ) زوجته : هي النفس ، وسمّيت حواء لملازمتها الجسم الظلماني إذ الحياة هي اللون الذي يغلب عليه السواد كما أن القلب سمي آدم لتعلقه بالجسم دون الملازمة بالانطباع إذ الأدمة هي السمرة أي : اللون الذي يضرب إلى السواد ولو لا تعلقه لما سمي آدم. والجنة المأمور بملازمتهما إياها هي سماء عالم الروح التي هي روضة القدس أي ألزما سماء الروح.
(وَكُلا مِنْها رَغَداً حَيْثُ شِئْتُما) أي : توسّعا وتفسحا في تلقي معانيها ومعارفها وحكمها التي هي الأقوات القلبية والفواكه الروحية توسعا بالغا على أي وجه ومن أي مرتبة وحال ومقام شئتما إذ هي دائمة غير منقطعة ولا محجورة (فَتَكُونا مِنَ الظَّالِمِينَ) الواضعين النور في محل الظلمة الذي ليس موضعه والناقصين من نور استعدادكما وحظكما من عالم النور ، فإن الظلم في العرف هو وضع الشيء في غير موضعه وفي اللغة نقص الحق والحظ الواجب.

(فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطانُ عَنْها فَأَخْرَجَهُما مِمَّا كانا فِيهِ وَقُلْنَا اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتاعٌ إِلى حِينٍ (36))
(فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطانُ عَنْها) أي : حملهما على الزلة من مقامهما إلى مهوى الطبيعة عن الجنة بتسويل الملاذ الجسمانية ودوامها عليهما (فَأَخْرَجَهُما مِمَّا كانا فِيهِ) من النعيم والروح الدائم. وقيل : بينما هما يتفرّجان في الجنة إذ راعهما طاوس تجلّى لهما على سور الجنة ، فدنت حواء منه وتبعها آدم فوسوس لهما الشيطان من وراء الجدار. وقيل : توسل بحيّة تتسوّر الجنة فأخذ بذنبها وصعد الجنة. والأوّل إشارة إلى توسله من قبل الشهوة خارج الجنة. والثاني : إلى توسله بالغضب. وتسوّره جدار الجنة : إشارة إلى أن الغضب أقرب إلى الأفق الروحانيّ والحيز القلبيّ من الشهوة. (وَقُلْنَا اهْبِطُوا) أي : ألزمناهم الهبوط إلى الجهة السفلية التي هي العالم الجسمانيّ (بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ) حال من الهبوط مقيد له إذ الهبوط إلى الدنيا التي هي الجهة السفلية يستلزم كون مطالبها جزئية في ضيق المادة محصورة لا تحتمل الشركة. وكلما حظي بها أحد حرم منها غيره فمنعه ، فيقع بينهما العداوة والبغضاء بخلاف المطالب الكلية وجمع الخطاب لأن خطابهما خطاب النوع إذ الأصل يتناول الفرع (وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ) أي : في هذه الجهة (مُسْتَقَرٌّ) استقرار (وَمَتاعٌ) تمتع (إِلى حِينٍ) أي : حين تجرّدهما بالموت الإرادي أو انقطاع حظوظهما بالموت الطبيعي وقيام أحد القيامتين الكبرى أو الصغرى.

(فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِماتٍ فَتابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (37))
(فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِماتٍ) أي : استقبل من جهة ربّه أنوارا وأطوارا ، أي : مراتب من الملكوت والجبروت وأرواحا مجرّدة ، إذ كل مجرد كلمة لأنه من عالم الأمر كما سمي عيسى كلمة أو تلقن منه معارف وعلوما وحقائق. (فَتابَ عَلَيْهِ) تقبّل رجوعه إليه بالتجرّد عن الملابس الطبيعية والانخراط في سلك الأنوار الملكوتية ، والاتصاف بالكمالات القدسية ، والتجلّي بالعلوم الحقيقية. وأصل تاب عليه : ألقى الرجوع عليه وجعله راجعا. ولعمري إنها هي التوبة المقبولة لا الرجوع الناشئ من قبله. (إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ) الكثير القبول لتوبة عباده (الرَّحِيمُ) الذي سبقت رحمته غضبه ، فيرحم عبده في حين غضبه ، كما جعل غضبه على آدم سبب كماله ورجوعه إليه وبعده ليقرب منه.

(قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْها جَمِيعاً فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً فَمَنْ تَبِعَ هُدايَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (38))
(قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْها جَمِيعاً) كرر ذلك الأمر بالهبوط ليفيد أنه هو الذي أراد ذلك ولو لا إرادته لما قدر إبليس على إغوائهم ، ولهذا أسند الإهباط إلى نفسه مجردا عن التعليق بالسبب بعد إسناد إخراجهما إلى الشيطان ، فهو قريب مما قال لنبيه : (فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلكِنَّ اللهَ قَتَلَهُمْ وَما رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلكِنَّ اللهَ رَمى) (1) فتفطن منه سرّ قضائه وقدره وبين وجه حكمة الإهباط بتعقيبه بقوله : (فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً فَمَنْ تَبِعَ هُدايَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ) وإيراده بالفاء إذ لو لا الهبوط لما أمكنهم من متابعة الهدى ، ولما تميز السعيد والشقيّ ، ولا حصل استحقاق الثواب والعقاب ، ولبطل دار الجزاء من الجنة والنار ، بل ما وجدت. والهدى هو الشرع فمن تبعه أمن سوء العاقبة فلم يخف مما يأتي من العقاب والفناء ، وتسلى عن الشهوات واللذات ، فلم يحزن على ما فاته من حطام الدنيا ونعيمها لاكتحال بصيرته بنور المتابعة واهتدائه إلى ما لا يقاس بلذات الدنيا من الأذواق الروحانية ، والفتوحات السريّة ، والمشاهدات القلبية ، والعلوم العقلية ، والمواجيد النفسية.

(وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (39) يا بَنِي إِسْرائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ (40) وَآمِنُوا بِما أَنْزَلْتُ مُصَدِّقاً لِما مَعَكُمْ وَلا تَكُونُوا أَوَّلَ كافِرٍ بِهِ وَلا تَشْتَرُوا بِآياتِي ثَمَناً قَلِيلاً وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ (41))
(وَالَّذِينَ كَفَرُوا) أي : حجبوا عن الدين لكونه في مقابلة اتباع الهدى. وإردافه بقوله : (وَكَذَّبُوا بِآياتِنا أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ) أي : نار الحرمان (هُمْ فِيها خالِدُونَ* يا بَنِي إِسْرائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ) بنو إسرائيل هم أهل اللطف الإلهيّ ، وأرباب نعمة الهداية والنبوة ، دعاهم باللطف وتذكير النعمة السابقة ، والعهد السالف المأخوذ منهم في التوراة بتوحيد الأفعال بعد العهد الأزليّ كما هو عادة الأحباب عند الجفاء. وهذه الدعوة مخصوصة بتوحيد الصفات الذي هو رفع الحجاب الثاني ، فهي أخص من الدعوة الأولى العامة لتذكير النعمة الدينية والعهد والتجلّي بصفة المنعم والوليّ ، والتهديد على عدم إجابتها بالرهبة التي هي أخصّ من الخوف ، فإن الخوف إنما يكون من العقاب ، والرهبة من السخط والقهر ، والإعراض والاحتجاب والخشيّة أخص منها لكونها مخصوصة باحتجاب الذات. قال الله تعالى : (وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ وَيَخافُونَ سُوءَ الْحِسابِ) . وكذا الهيبة لأنها قرنت بعظمة الذات.
(وَآمِنُوا بِما أَنْزَلْتُ) من القرآن على حبيبي من توحيد الصفات (مُصَدِّقاً لِما مَعَكُمْ) في التوراة من توحيد الأفعال (وَلا تَكُونُوا أَوَّلَ كافِرٍ بِهِ) أي : أول محجوب عنه لاحتجابكم باعتقادكم (وَلا تَشْتَرُوا) أي : لا تستبدلوا (بِآياتِي) الدالة على تجلّيات ذاتي وصفاتي كسورة (الإخلاص) وآية (الكرسي) وأمثالهما ، (ثَمَناً قَلِيلاً) أي : جنتكم النفسية لتألفكم بالملاذ الحسيّة وثواب الأعمال بتوحيد الأفعال. وإن اتقيتم عن الشرك فاتقوا سطوة قهري وجلالي وحجابي بابتغاء رضاي فلا تثبتوا صفة لغيري.

(وَلا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْباطِلِ وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (42))
(وَلا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْباطِلِ) أي : ولا تخلطوا صفاته تعالى الثابتة كعلمه وقدرته وإرادته بالباطل الذي هو صفات نفوسكم بظهورها بصفاتها وعدم تمييزكم بين دواعيها وخواطرها ودواعي الحق وخواطره ، ولا تكتموها بحجاب صفات النفس وسترها إياها عند ظهورها (وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ) من علم توحيد الأفعال أنّ مصدر الفعل هو الصفة ، فكما لم تسندوا الفعل إلى غيره لا تثبتوا صفة لغيره.
[43] (وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ (43))
(وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ) طلبا لمرضاتي لا رجاء لثوابي ، ومصداقه قوله : (وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ) إذ الركوع هو الخضوع والإذعان لما يفعل به فهو علامة الرضا الذي هو ميراث تجلّي الصفات وغايته ، أي : ارضوا بقضائي عند مطالعة صفاتي والتوجه عند القيام بالفعل علامة طلب الثواب والأجر لاستقلال النفس بصورتها ، والسجود الذي هو غاية الخضوع علامة الفناء في الوحدة عند تجلي الذات.

(أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتابَ أَفَلا تَعْقِلُونَ (44))
(أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ) الذي هو الفعل الجميل الموجب لصفاء القلب ، وزكاء النفس الزائد منها بالتنوّر (وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ) أفلا تفعلون ما ترتقون به من مقام تجلّي الأفعال إلى تجلّي الصفات (وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ) كتاب فطرتكم الذي يأمركم باتباع محمد في دينه السالك بكم سبيل التوحيد (أَفَلا تَعْقِلُونَ) تعيير بالغ ، وتهييج لحميتهم.

(وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ وَإِنَّها لَكَبِيرَةٌ إِلاَّ عَلَى الْخاشِعِينَ (45) الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُوا رَبِّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ راجِعُونَ (46) يا بَنِي إِسْرائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعالَمِينَ (47))
(وَاسْتَعِينُوا) واطلبوا العون والمدد ممن له القدرة ، إذ لا قدرة لكم على أفعالكم (بِالصَّبْرِ) على ما تكرهون مما يفعل بكم وتكلفكم ونيتكم به لكي تصلوا إلى مقام الرضا (وَالصَّلاةِ) التي هي حضور القلب لتلقي تجلّيات الصفات (وَإِنَّها) وإنّ المراقبة أي الحضور القلبيّ (لَكَبِيرَةٌ) لشاقة ثقيلة (إِلَّا عَلَى الْخاشِعِينَ) المنكسرة ، اللينة قلوبهم لقبول أنوار التجليات اللطيفة واستيلاء سطوات التجليات القهرية ، الذين يتيقنون أنهم بحضرة ربهم ، أي : حضرة الصفات لدلالة الربّ عليها في حال لقائه ، (وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ راجِعُونَ) بفناء صفاتهم ومحوها في صفاته.
كرّر الخطاب ليفيد أنّ الذي هداهم أولا ولطف بهم وفضّلهم على عالمي زمانهم المحجوبين بالهداية إلى رفع الحجاب الأول هو الذي يهديهم ثانيا ، فكما لم يرد بهم شرّا في الهداية الأولى فكذلك في الثانية لا يريد بهم إلا خيرا.

(وَاتَّقُوا يَوْماً لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً وَلا يُقْبَلُ مِنْها شَفاعَةٌ وَلا يُؤْخَذُ مِنْها عَدْلٌ وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ (48))
(وَاتَّقُوا يَوْماً لا تَجْزِي) أي : حال تجلي صفة القهر حين لا تغني (نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً) من الإغناء لعدم القدرة لأحد (وَلا يُقْبَلُ مِنْها شَفاعَةٌ) لعدم الشفاعة والمدد إذ كلهم ملوبو الصفات والأفعال ، كقوله :
ولا ترى الضب بها ينحجر
(وَلا يُؤْخَذُ مِنْها عَدْلٌ) أي : فدية لعدم الملك لأحد (وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ) لامتناع القوّة والنصرة لغيره تعالى.

(وَإِذْ نَجَّيْناكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذابِ يُذَبِّحُونَ أَبْناءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِساءَكُمْ وَفِي ذلِكُمْ بَلاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ (49))
(وَإِذْ نَجَّيْناكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ) ظاهره وتفسيره على ما يفهم من تذكير النعمة لتهييج المحبة وباطنة وتأويله وإذ نجيناكم من آل فرعون النفس الأمارة المحجوبة بأنانيتها المستعلية على ملك الوجود ومصر مدينة البدن التي استعبدت هي وقواها التي هي الوهم والخيال والمتخيلة والغضب والشهوة والقوى الروحانية التي هي أبناء صفوة الله يعقوب الروح والقوى الطبيعية البدنية من الحواس الظاهرة والقوى النباتية.
(يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذابِ) يكلفونكم المتاعب الصعبة والكدّ والأعمال الشاقّة في جمع المال وادّخاره بالحرص والأمل وترتيب الأقوات والملابس وغيرها مما يكدح فيه الحرّاص من أبناء الدنيا ويستعبدونكم في التفكر فيها والاهتمام بها وضبطها وتحصيل لذاتهم التي هي عذاب لمنعها إياكم عن لذاتكم. (وَيُذَبِّحُونَ أَبْناءَكُمْ) التي هي تلك القوى الروحانية عن العاقلة النظرية ، والعاقلة العملية اللتين هما عينا القلب النظرية اليمنى والعملية اليسرى ، والفهم الذي هو سمع القلب ، والسرّ الذي هو قلب القلب ، والفكر والذكر (وَيَسْتَحْيُونَ نِساءَكُمْ) القوى الطبيعية المذكورة بمنع الطائفة الأولى عن أفعالها الخاصة بالقهر والاستيلاء وحجبها عن حياة نور الروح ومددها وأقدار الطائفة الثانية عن أفعالها وتمكينها.
(وَفِي ذلِكُمْ) الإنجاء نعمة عظيمة (مِنْ رَبِّكُمْ) هي نعمة مطالعة صفات جلاله وجماله ، أو في ذلكم التعذيب نقمة عظيمة من ربكم هي نقمة الاحتجاب والحرمان والبعد ، إذ البلاء الذي هو الامتحان يحصل بهما. قال الله تعالى : (وَبَلَوْناهُمْ بِالْحَسَناتِ وَالسَّيِّئاتِ) .

(وَإِذْ فَرَقْنا بِكُمُ الْبَحْرَ فَأَنْجَيْناكُمْ وَأَغْرَقْنا آلَ فِرْعَوْنَ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ (50))
(وَإِذْ فَرَقْنا) بوجودكم (الْبَحْرَ) أي البحر الأسود الزعاق الذي هو المادة الجسمانية لانفلاقها بوجودكم انفلاق الأرض من النبات (فَأَنْجَيْناكُمْ) بالتجرّد منها (وَأَغْرَقْنا آلَ فِرْعَوْنَ) أي : القوى النفسانية فيها بملازمتها إياها وهلاكها بفسادها ، (وَأَنْتُمْ) تشاهدون ذلك. وعلى هذا يمكن أن يؤوّل بنو إسرائيل في أوّل الخطاب بتلك القوى الروحانية والنعمة التي أنعم بها عليهم هي التهدي إلى قبول الأنوار الفائضة عليها من عالم الروح وتلقي المعارف والحكم ، وإيفاؤهم بالعهد ، وإبرازهم ما ركز فيها بحسب الاستعداد الأول من الأدلة التوحيدية والمعاني الكلية الكامنة فيها بالتصفية ومزاولة ما يختص بها من الأفعال ، وإيفاؤه بعهدهم إفاضة النور الكماليّ عليها عند قيامها بحق النور الاستعدادي بالتصفية واستعمال ما عندها من المعاني. وإن كنتم رهبتم شيئا فارهبوا احتجاب أنواري بزوال استعدادكم ، وآمنوا أي : واقبلوا ما أفيض عليكم من الإشراقات النورية والسوانح الغيبية مصدّقا لما في استعدادكم من النور الفطريّ ، ولا تكونوا في أوّل رتبة المحتجبين عن قبولها بالتوجه إلى الجهة السفلية ولا تستبدلوا بها لذات النفس ومقاصدها ، ولا تخلطوا حق المعارف الروحية والأنوار القدسية بباطل المطالب الحسية والصفات النفسية ، وتكتموا تلك الأنوار والمعارف بظهور هذه عليكم. وأقيموا وأديموا التوجه إلى حضرة الروح وامتثال أمره ، وآتوا زكاة معلوماتكم التي هي أموالكم بتصفحها وتركيبها لتحرزوا بها ثواب النتائج واللوازم ، وأنفقوها على فقرائكم الذين بحضرتكم من القوى البدنية الطبيعية ليعيشوا بها ، ويكتسبوا بها الأخلاق الفاضلة والملكات الجميلة ، وعلموها أبناء جنسكم ليكملوا بها ، واركعوا واخضعوا لقبول الأوامر العقلية والأنوار الروحية والأعمال القلبية. أتأمرون الناس بالبرّ وتنسون أنفسكم؟ أتسوسون ما تحتكم من القوى بالعبادات الجميلة والآداب الحسنة والترقي إلى مقامكم والتأدب بآدابكم وتنسون أنفسكم في التأدّب بين يدي الله بآداب الروحانيين والتمرّن في المراقبة ، والتنوّر بأنوار الروح في مقام المشاهدة والترقي إلى مقامه عند الفناء في الوحدة ، وأنتم تتلون كتاب المعقولات النازلة من ربّ الروح بواسطة ملك العقل إلى نبيّ القلب. أفلا تعقلون بالعقل المجرّد عن شوب الهوى والوهم؟ واستعينوا بالصبر على ما يظهر عليكم ويرد من سلطنة أنوار سلطان الروح وأحكامه وقهر تجليات العظموت والحضور مع الحق ، وإن هذه الاستعانة لشاقّة إلا على الخاشعين ، المرتاضين ، المذعنين لانقياد أمر القلب والروح ، المتيقنين بأنهم بحضرته وفي لقائه ، وأنهم يرجعون إليه في قبول أنواره. وتفضيلهم على العالمين هو شرفهم على جميع ما في الإنسان من القوى.

(وَإِذْ واعَدْنا مُوسى أَرْبَعِينَ لَيْلَةً ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَنْتُمْ ظالِمُونَ (51))
(وَإِذْ واعَدْنا مُوسى) بعد فراغه من مقاومة آل فرعون وإهلاكهم (أَرْبَعِينَ لَيْلَةً) يخلص لنا فيها لترفع بها الغشاوات الطبيعية التي حجبت قلبه عن معدن النور في الأربعين التي خلق فيها بدنه عند تكوّنه جنينا واحتجابه بالنشأة عن الفطرة كما ورد في الحديث : «خمر طينة آدم بيده أربعين صباحا». وعن وجه قلبه ، وتظهر حكمة التوراة من قلبه على لسانه (ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ) عجل النفس الحيوانية الناقصة إلها من بعد اعتزاله وغيبته عنكم (وَأَنْتُمْ ظالِمُونَ) واضعون العبادة في غير موضعها.

(ثُمَّ عَفَوْنا عَنْكُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (52))
(ثُمَّ عَفَوْنا عَنْكُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ) الفعل الشنيع ، والظلم القبيح ، بتوبتكم عند رجوع موسى إليكم لكي تشكروا نعمة عفوي بتصوّر تلك النعمة عن المنعم فتستعدّوا لقبول تجلّي صفة المنعم. وعلى التأويل الثاني : واعدنا موسى القلب عند تعلقه بالبدن واحتجابه عن قومه القوى الروحانية الأربعين التي خلقت فيها بنية بدنه ثم تعبّدتم عجل النفس الحيوانية الطفل من بعد غيبته واحتجابه في حال الصبا (لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) التعبد بالبلوغ الحقيقيّ ، وظهور نور القلب بتجرّدكم لكي تشكروا نعمة توفيقي إياكم لذلك التجرّد وتهيئتي لأسباب كمالكم بسلوك سبيل صفاتي.

(وَإِذْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ وَالْفُرْقانَ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (53) وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ يا قَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنْفُسَكُمْ بِاتِّخاذِكُمُ الْعِجْلَ فَتُوبُوا إِلى بارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ عِنْدَ بارِئِكُمْ فَتابَ عَلَيْكُمْ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (54))
(وَإِذْ آتَيْنا مُوسَى) القلب كتاب المعقولات والحكم والمعارف والتمييز الفارق بين الحق والباطل ، لكي تهتدوا بنور هداه. وعلى الوجه الأول غنيّ عن التأويل. (ظَلَمْتُمْ أَنْفُسَكُمْ) نقصتم حقوقها وحظوظها من الثواب والتجليات المذكورة (فَتُوبُوا) إلى خالقكم برفع الحجاب الأول لدلالة ذكر البارئ عليه (فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ) بسيف الرياضة ومنعها عن حظوظها وأفعالها الخاصة بها على سبيل الاستقلال وقمع هواها التي هي روحها التي تحيا هي بها ، وعلى الثاني ألهم القلب قواه أنكم نقصتم حقوقكم بتعبد النفس فارجعوا إلى بارئكم بنور هداه فامنعوا أنفسكم بالرياضة عما ضريتم فاقتلوها عن حياتها العارضة لها بغلبة الهوى لتحيوا بحياتكم الأصلية فتقبل توبتكم.

(وَإِذْ قُلْتُمْ يا مُوسى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ (55) ثُمَّ بَعَثْناكُمْ مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (56) وَظَلَّلْنا عَلَيْكُمُ الْغَمامَ وَأَنْزَلْنا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوى كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ وَما ظَلَمُونا وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (57))
(وَإِذْ قُلْتُمْ يا مُوسى لَنْ نُؤْمِنَ) لأجل هدايتك الإيمان الحقيقي حتى تصل إلى مقام المشاهدة والعيان (فَأَخَذَتْكُمُ) صاعقة الموت الذي هو الفناء في التجلي الذاتي (وَأَنْتُمْ) تراقبون أو تشاهدون. (ثُمَّ بَعَثْناكُمْ) بالحياة الحقيقية والبقاء بعد الفناء لكي تشكروا نعمة التوحيد والوصول بالسلوك في الله (وَظَلَّلْنا عَلَيْكُمُ) غمام تجلي الصفات لكونها حجب شمس الذات المحرقة بالكلية ، (وَأَنْزَلْنا عَلَيْكُمُ) من الأحوال والمقامات الذوقية الجامعة بين الحلاوة وإسهال رذائل أخلاق النفس كالتوكل والرضا ، وسلوى الحكم ، والمعارف والعلوم الحقيقية التي تحشرها عليكم رياح الرحمة ، والنفحات الإلهية في تيه الصفات عند سلوككم فيها. (كُلُوا) أي : تناولوا وتلقوا هذه الطيبات (وَما ظَلَمُونا) ما نقصوا حقوقنا وصفاتنا باحتجابهم بصفات نفوسهم (وَلكِنْ كانُوا) ناقصين حقوق أنفسهم بحرمانها وخسرانها. هذا على التأويلين ، والخطاب وإن كان عاما لكنه مخصوص بالسبعين المختارين.

(وَإِذْ قُلْنَا ادْخُلُوا هذِهِ الْقَرْيَةَ فَكُلُوا مِنْها حَيْثُ شِئْتُمْ رَغَداً وَادْخُلُوا الْبابَ سُجَّداً وَقُولُوا حِطَّةٌ نَغْفِرْ لَكُمْ خَطاياكُمْ وَسَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ (58))
(وَإِذْ قُلْنَا ادْخُلُوا هذِهِ الْقَرْيَةَ) أي : روضة الروح المقدسة التي هي مقام المشاهدة (وَادْخُلُوا الْبابَ) الذي هو الرضا كما ورد في الحديث : «الرضا بالقضاء باب الله الأعظم» ، (سُجَّداً) منحنين ، خاضعين ، لما يرد عليكم من التجليات الوصفية والفعلية والحملية. وقوله : (وَقُولُوا حِطَّةٌ) أي : اطلبوا أن يحط الله عنكم ذنوب صفاتكم وأخلاقكم وأفعالكم (نَغْفِرْ لَكُمْ خَطاياكُمْ) تلويناتكم وذنوب أحوالكم (وَسَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ) أي : المشاهدين لقوله عليه الصلاة والسلام : «الإحسان أن تعبد الله كأنك تراه». ثواب إحسانهم الذي هو كشف الذات أو إحسانهم بالسلوك في الله.

(فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلاً غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ فَأَنْزَلْنا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا رِجْزاً مِنَ السَّماءِ بِما كانُوا يَفْسُقُونَ (59))
(فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلاً غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ) أي : طلبوا الاتصاف بصفات النفس ابتغاء حظوظها سوى طلب الاتصاف بصفات الله ابتغاء الحظوظ الروحية. كما روي عنهم حنطا سمقاثا أي : نطلب غذاء النفس. (فَأَنْزَلْنا) على الظالمين خاصة (رِجْزاً) عذابا وضنكا وضيقا وظلمة في حبس النفس وأسرا في وثاق التمني واحتجابا في قيد الهوى ، وحرمانا وذلا بمحبة المادة السفلية وتغيرها وزوالها من جهة قهر سماء الروح ، ومنع اللطف والروح عنهم بسبب فسقهم أي خروجهم عن طاعة القلب إلى طاعة النفس ، وتركنا التأويل الثاني لقربه منه جدا.

(وَإِذِ اسْتَسْقى مُوسى لِقَوْمِهِ فَقُلْنَا اضْرِبْ بِعَصاكَ الْحَجَرَ فَانْفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتا عَشْرَةَ عَيْناً قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُناسٍ مَشْرَبَهُمْ كُلُوا وَاشْرَبُوا مِنْ رِزْقِ اللهِ وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (60) وَإِذْ قُلْتُمْ يا مُوسى لَنْ نَصْبِرَ عَلى طَعامٍ واحِدٍ فَادْعُ لَنا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنا مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ مِنْ بَقْلِها وَقِثَّائِها وَفُومِها وَعَدَسِها وَبَصَلِها قالَ أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ اهْبِطُوا مِصْراً فَإِنَّ لَكُمْ ما سَأَلْتُمْ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ وَباؤُ بِغَضَبٍ مِنَ اللهِ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كانُوا يَكْفُرُونَ بِآياتِ اللهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ ذلِكَ بِما عَصَوْا وَكانُوا يَعْتَدُونَ (61))
(وَإِذِ اسْتَسْقى مُوسى) طلب نزول أمطار العلوم والحكم والمعاني من سماء الروح ، فأمرناه بضرب عصا النفس التي يتوكأ عليها في تعلقه بالبدن وثباته على أرضه بالفكر على حجر الدماغ الذي هو منشأ العقل (فَانْفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتا عَشْرَةَ عَيْناً) من مياه العلوم على عدد المشاعر الإنسانية التي هي الحواس الخمس الظاهرة ، والخمس الباطنة ، والعاقلة النظرية والعملية. ولهذا قال عليه الصلاة والسلام : «من فقد حسّا فقد فقد علما». (قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُناسٍ مَشْرَبَهُمْ) أي : أهل كل علم مشربهم من ذلك العلم ، كأهل الصناعات ، والعلماء العاملين من مشرب العقل العمليّ ، والحكماء والعارفين من النظريّ والصباغين من علم الألوان المبصرة ، وأهل صناعة الموسيقى من علم الأصوات وغير ذلك. وعلى التأويل الثاني : أمرنا موسى القلب ، بضرب عصا النفس على حجر الدماغ ، فانفجرت منه اثنتا عشرة عينا هي المشاعر المذكورة التي تختص كلّ واحدة منها بقوّة من القوى الاثنتي عشرة المذكورة التي هي أسباط يعقوب الروح ، قد علم كل منها مشربه (كُلُوا وَاشْرَبُوا مِنْ رِزْقِ اللهِ) أي : انتفعوا بما رزقكم الله من العلم والعمل والأحوال والمقامات. (وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ) ولا تبالغوا في الفساد بالجهل.

(لَنْ نَصْبِرَ عَلى طَعامٍ واحِدٍ) أي : الغذاء الروحاني من العلم والمعرفة والحكمة (فَادْعُ لَنا رَبَّكَ) أي : اسأل لنا ربّك يوسع علينا ، ويرخص لنا فيما تنبته أرض نفوسنا من الشهوات الخبيثة واللذات الخسيسة والتفكهات الباردة وكل ما فيه حظ النفس وعذابها. (اهْبِطُوا مِصْراً) أي : مدينة البدن (فَإِنَّ لَكُمْ) فيها (ما سَأَلْتُمْ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ) اللازمة لاتباع الشهوات والحرص في المقتنيات (وَالْمَسْكَنَةُ) أي : دوام الاحتياج ودوام سكنى الجهة السفلية (وَباؤُ) واستحقوا (بِغَضَبٍ) البعد والطرد (مِنَ اللهِ ذلِكَ) باحتجابهم عن آيات الله وتجلياته ، والباقي ظاهر. وعلى الوجه الثاني : وبقتلهم أنبياء القلوب بغير أمر ثابت لهم عليهم يتوجه به ذلك بل بصرف باطلهم ذلك بعصيانهم أوامر القلوب والعقول واعتدائهم عن ظهورهم.
[62] (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هادُوا وَالنَّصارى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صالِحاً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (62))
(إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا) الإيمان التقليديّ ، والظاهريين والباطنيين والذين تعبدوا ملائكة العقول ، لاحتجابهم بالمعقولات وكواكب القوى النفسانية لاحتجابهم بالوهميات والخياليات (مَنْ آمَنَ) منهم الإيمان الحقيقي (بِاللهِ) والمعاد وأيقنوا علم التوحيد والقيامة ، وعملوا ما يصلحهم للقاء الله ونيل السعادة في المعاد ، فلهم الثواب الباقي الروحانيّ عند ربهم من جنّات الأفعال والصفات (وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ) من عقوبة أفعالهم (وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ) بفوات تجلّيات الصفات. والجملة اعتراض بين خطاب بني إسرائيل.

(وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَكُمْ وَرَفَعْنا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا ما آتَيْناكُمْ بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا ما فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (63) ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ فَلَوْ لا فَضْلُ اللهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَكُنْتُمْ مِنَ الْخاسِرِينَ (64) وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ فَقُلْنا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خاسِئِينَ (65) فَجَعَلْناها نَكالاً لِما بَيْنَ يَدَيْها وَما خَلْفَها وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ (66))
(وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَكُمْ) أي : عهدكم السابق أو اللاحق المأخوذ منهم في التوراة أو بدلائل العقل بتوحيد الأفعال والصفات (وَرَفَعْنا فَوْقَكُمُ) طور الدماغ للتمكن من فهم المعاني وقبولها. وقلنا (خُذُوا) أي : اقبلوا (ما آتَيْناكُمْ) من التوراة أو كتاب العقل الفرقاني بجدّ (وَاذْكُرُوا) وعوا ما فيه من الحكم والمعارف والعلوم والشرائع ، لكي تتقوا الشرك والجهل والفسق (ثُمَ) أعرضتم (مِنْ بَعْدِ ذلِكَ) بإقبالكم إلى الجهة السفلية (فَلَوْ لا فَضْلُ اللهِ عَلَيْكُمْ) بهدايته العقل (وَرَحْمَتُهُ) بنور البصيرة والشرع (لَكُنْتُمْ مِنَ الْخاسِرِينَ وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا) اعلم : إن الناس لو أهملوا وتركوا وخلّى بينهم وبين طباعهم لتوغلوا وانهمكوا في اللذات الجسمانية ، والغواشي الظلمانية لضراوتهم بها واعتيادهم من الطفولية والصبا حتى زالت استعداداتهم وانحطوا عن رتبة الإنسانية ، فمسخوا كما قال تعالى : من لعنه الله وغضب عليه ، وجعل منهم القردة والخنازير ، وإن حفظوا وروّعوا بالسياسات الشرعية والعقلية والحكم والآداب والمواعظ الوعدية والوعيدية ترقوا وتنوّروا ، فلهذا وضعت العبادات ، وفرض عليهم تكرارها في الأوقات المعينة ليزول عنهم بها درن الطباع المتراكم في أوقات الغفلات وظلمة الشواغل العارضة في أزمنة اتخاذ اللذات ، وارتكاب الشهوات. فتتنوّر بواطنهم بنور الحضور ، وتنتعش قلوبهم بالتوجه إلى الحق عن السقوط في هاوية النفس والعثور ، وتستريح بروح الروح ، وحبّ الوحدة عن وحشة الهوى ، وتعلق الكثرة ، كما قال عليه‌السلام : «الصلاة بعد الصلاة كفارة ما بينهما من الصغائر إذا اجتنبت الكبائر». ألا ترى كيف أمرهم عند الحدث الأكبر ومباشرة الشهوة بتطهير الغسل ، وعند الأصغر بالوضوء ، وعند الاشتغال بالأشغال الدنيوية في ساعات اليوم والليل بالصلوات الخمس المزيلة لكدورات الحواس الخمس الحاصلة في النفس بسببها ، كل بما يناسبه ، فلذلك وضعوا بإزاء وحشة تفرقة الأسبوع وظلمة انفرادهم بدءوب الأشغال والمكاسب ، والملابس البدنية ، والملاذ النفسانية ، اجتماع يوم واحد على العبادة والتوجه لتزول وحشة التفرقة بأنس الاجتماع وتحصل بينهم المحبة والأنس وتزول ظلمة الاشتغال بالأمور الدنيوية والإعراض عن الحق بنور العبادة والتوجه ، ويحصل لهم التنوّر فوضع لليهود أول أيام الأسابيع لكونهم أهل المبدأ والظاهر ، وللنصارى بعده لأنهم أهل المعاد والروحاني والباطن المتأخرين عن المبدأ والظاهر بالنسبة إلينا ، وللمسلمين آخرها الذي هو يوم الجمعة لكونهم في آخر الزمان أهل النبوّة الخاتمة وأهل الوحدة الجامعة للكل ، وإن جعل السبت آخر الأيام ـ على ما نقل أنه السابع ـ فبالنسبة إلى الحقّ تعالى لأن عالم الحسّ الذي إليه دعوة اليهود هو آخر العوالم ، وعالم العقل الذي إليه دعوة النصارى أوّلها ، والجمعة هي يوم الجمع والختم ، فمن لم يراع هذه الأوضاع والمراقبات أصلا زال نور استعداده ، فمسخ كما مسخت أصحاب السبت. نهوا عن الصيد ، أي : إحراز الحظوظ النفسانية واقتنائها في يوم السبت ، فاحتالوا فيه فاتخذوا حياضا على ساحل البحر ليحبسوا فيها الحيتان ويصطادوها يوم الأحد. أي : ادخروا في سائر أيام الأسبوع من ماء بحر الهيولى الجرمية والجرمانيات المادية في حياض بيوتهم فجمعوا بها أنواع المطاعم والمشارب والملاذ والملاهي ، فاجتمع لهم من كل الحظوظ النفسانية في يوم السبت ما اكتفوا به سائر أيام الأسبوع ليفرغوا فيها إلى الاشتغال بالمكاسب والصناعات والمهن ، كما هو عادة اليهود اليوم وشطار المسلمين في الجماعات فإن أكثر فسقهم فيها ، فذلك اعتيادهم في السبت وهو يدل على أنّ جميع أوقات حضورهم مصروفة في هموم الدنيا وطلب حظوظ النفس والهوى. كما ترى اليوم واحدا من المسلمين قالبه في المسجد في الصلاة وقلبه في السوق في المعاملة ، حتى قال أحدهم : جريدة حسابي هي الصلاة. أي : إذا فرغت من أشغال الدنيا إلى الصلاة أخذ قلبي في تصفح تجاراتي وما لي على الناس وما للناس عليّ ، وذلك موجب للانحطاط عن العالم العلويّ الإنساني إلى الأفق السفليّ الحيواني. وهو معنى قوله :
(فَقُلْنا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً) أي : مشابهين الناس في الصورة وليسوا بهم (خاسِئِينَ) بعيدين ، طريدين. والمسخ بالحقيقة حق غير منكر في الدنيا والآخرة ، وردت به الآيات والأحاديث كقوله تعالى : (وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنازِيرَ) ، وقول رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «يحشر بعض الناس على صور يحسن عندها القردة والخنازير». وقد روي عنه عليه الصلاة والسلام : «المسوخ ثلاثة عشر» ، ثم عدّهم وبين أعمالهم ومعاصيهم وموجبات مسخهم. والحاصل أنّ من غلب عليه وصف من أوصاف الحيوانات ورسخ فيه بحيث أزال استعداده وتمكن في طباعه وصار صورة ذاتية له كالماء الذي منبعه معدن الكبريت مثلا صار طباعه طباع ذلك الحيوان ونفسه نفسه ، فاتصلت روحه عند المفارقة ببدن يناسب صفته فصارت صفته صورته والله أعلم بذلك.

(وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً قالُوا أَتَتَّخِذُنا هُزُواً قالَ أَعُوذُ بِاللهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجاهِلِينَ (67))
(وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً) هي النفس الحيوانية ، وذبحها قمع هواها الذي هو حياتها ومنعها عن أفعالها الخاصة بها بشفرة سكين الرياضة (قالُوا أَتَتَّخِذُنا) مهزوّا بنا ، وتستخفنا لنطيعك ونتسخر لك كما جاء في حق فرعون : فاستخف قومه فأطاعوه. (قالَ أَعُوذُ بِاللهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجاهِلِينَ) الاستخفاف والاستهزاء وطلب الترؤس هو فعل الجهال.

(قالُوا ادْعُ لَنا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنا ما هِيَ قالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّها بَقَرَةٌ لا فارِضٌ وَلا بِكْرٌ عَوانٌ بَيْنَ ذلِكَ فَافْعَلُوا ما تُؤْمَرُونَ (68) قالُوا ادْعُ لَنا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنا ما لَوْنُها قالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّها بَقَرَةٌ صَفْراءُ فاقِعٌ لَوْنُها تَسُرُّ النَّاظِرِينَ (69) قالُوا ادْعُ لَنا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنا ما هِيَ إِنَّ الْبَقَرَ تَشابَهَ عَلَيْنا وَإِنَّا إِنْ شاءَ اللهُ لَمُهْتَدُونَ (70) قالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّها بَقَرَةٌ لا ذَلُولٌ تُثِيرُ الْأَرْضَ وَلا تَسْقِي الْحَرْثَ مُسَلَّمَةٌ لا شِيَةَ فِيها قالُوا الْآنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ فَذَبَحُوها وَما كادُوا يَفْعَلُونَ (71))
(قالُوا ادْعُ لَنا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنا ما هِيَ) أي : سل لنا ربّك ما هي (إِنَّها بَقَرَةٌ لا فارِضٌ) أي : غير مسنّة لزوال استعدادها ورسوخ اعتقادها وضراوتها بعاداتها كما قيل : الصوفيّ بعد الأربعين بارد. (وَلا بِكْرٌ) أي : فتيّة ، لقصور استعدادها عما يراد منها وعسر احتمالها للرّياضة لغلبة القوى الطبيعية وقوتها فيها (عَوانٌ) نصفة (بَيْنَ) ما ذكر (صَفْراءُ) لأن لون الجسم أسود لعدم النورية فيه أصلا ، ولون النفس النباتية أخضر لظهور النورية فيها ، وغلبة السواد عليها لعدم إدراكها ، ولون القلب أبيض لتجرّده عن الجسم ، وقوّة إدراكه ، وكمال نوريته. فلزم أن يكون لون النفس الحيوانية في الحيوانات العجم أحمر لتركب نورية إدراكها وسواد تعلقها بالجسم ، إذ الحمرة لون بين البياض والسواد ومركب منهما ، لكن السواد فيه أكثر. وفي الإنسان أصفر لغلبة نورية إدراكها بمجاورة القلب ، إذ الصفرة حمرة عليها البياض (فاقِعٌ لَوْنُها) لصفاء استعدادها وشعشعان شعاع نور القلب عليها (تَسُرُّ النَّاظِرِينَ) لقوة نور استعدادها وتشعشعها والناظرون هم الكاملون المطلعون على الاستعدادات لوجوب محبتهم للمستعدّين المستبصرين وذوقهم بحضورهم. (إِنَّ الْبَقَرَ تَشابَهَ عَلَيْنا) لكثرة البقر الموصوف بهذه الصفة ، أي : كثرة أصناف المستعدّين وما كل مستعدّ طالبا. كما قيل : ما كلّ طبع قابلا ولا كل قابل طالبا ، ولا كلّ طالب صابرا ، ولا كلّ صابر واجدا. (وَإِنَّا إِنْ شاءَ اللهُ لَمُهْتَدُونَ) إلى ذبح هذه البقرة. وقولهم : إن شاء الله ، دليل على استعدادهم لعلمهم بأن الأمور متعلقة بمشيئة الله ، ميسّرة بتوفيقه. ولهذا قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لو لم يستثنوا لما ظفروا بها أبد الدهر».

(لا ذَلُولٌ) غير مذلّلة ، منقادة لأمر الشرع (تُثِيرُ) أرض الاستعداد بالأعمال الصالحة والعبادات (وَلا تَسْقِي) حرث المعارف والحكم التي فيها بالقوّة باستقاء ماء العلوم الكسبية والأفكار الثاقبة ، لعدم احتياج مثل هذه البقرة إلى الذبح (مُسَلَّمَةٌ) سلمها أهلها لترعى ، غير مسوسة برسوم وعادات وشرائع وآداب (لا شِيَةَ فِيها) أي : لم يرسخ فيها اعتقاد ومذهب لعدم صلاحيتها للذبح.
(جِئْتَ بِالْحَقِ) الثابت في بيان المستعد المشتاق ، الطالب للكمال (فَذَبَحُوها وَما كادُوا يَفْعَلُونَ) لكثرة سؤالاتهم ومبالغاتهم وتعمقهم في البحث والتفتيش عن حالها ، وفضول كلامهم في بيانها التي تدلّ على عدم انقياد النفس بالسرعة ، وإبائها للرياضة ، وغلبة الفضول عليها ، وتعذر مطلوبهم ، وتأخرهم عنه بسبب ذلك. ولهذا قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لو اعترضوا أدنى بقرة فذبحوها لكفتهم ، ولكن شدّدوا فشدّد الله عليهم» ، أي : لو لم يكن منهم كثرة فضول البحث والسؤال لما عزّ عليهم مطلوبهم لقوّة قبولهم وإرادتهم ، فكان سلس القياد ، سهل الانقياد. ونهى صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن كثرة السؤال ، وقال : «إنما هلك من كان قبلكم بكثرة السؤال». قال الله تعالى : (لا تَسْئَلُوا عَنْ أَشْياءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ) .
وقيل في قصتها : إنّ شيخا من بني إسرائيل نتجت له عجلة على هذه الصفة ، وكان له ابن طفل ، فجاء بها إلى عجوزة وقال : إنها لهذا الطفل ، سلميها في مرعاها عساها تنفعه إذا بلغ. فلما وقعت هذه الواقعة وسعى بنو إسرائيل في طلب البقرة أربعين سنة سمعت العجوز بها ، فأخبرت ابنها بما فعل أبوه وقد ترعرع ، فجاء إلى المرعى فوجدها ، فأتى بها فساوموه في شرائها ومنعته العجوز عن بيعها حتى اشتروها بملء مسكها ذهبا. فالشيخ هو الروح ، والعجوز الطبيعة الجسمانية ، وابنه الطفل هو العقل الذي هو نتيجة الروح ، والشابّ المقتول هو القلب.
سلّم شيخ الروح عجل النفس إلى عجوز الطبع ليرعى في مرعى اللذات الطبيعية حتى يكبر عسى طفل العقل أن ينتفع بها وقت البلوغ في انتزاع المعقولات من محسوساتها واستعمال الفكر الذي هو من قواها في اكتساب العلوم العقلية. وهو الذي جاء بها من المرعى وسعي بني إسرائيل أربعين سنة إشارة إلى السير إلى الله بالأعمال والآداب والتخلق بالأخلاق ، إلى أوان البلوغ الحقيقي ، وتجرّد القلب ، كما قال الله تعالى : (بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً) وبلغ أربعين سنة. ومساومتهم إياها في شرائها إشارة إلى طلب القوى الروحانية المنوّرة بنور الهداية الشرعية والإرادة ، وانتزاعها من العقل المشوب بالوهم ، واستعباد العقل إياها بالمعقولات القياسية ، وتسخيرها بالفكريات ، وحجبها عن نور الهداية الشرعية بالقياسات العقلية ، وعدم تحليتها بالشرعيات. وهذا هو الموجب لتشدّدهم في السؤال وتأخرهم وتباطئهم في الامتثال. ومنع العجوز إياه هو ممانعة الطبع في الانقياد للشرع ، وموافقة العقل إياه في ذلك لرعاية العقل جانب الطبع في مصالح المعاش وترفيهه إياه ، وترخيصه والتوسيع عليه أكثر من الشرع. وبيعها بملء مسكها ذهبا إشارة إلى تحليها بعد الذبح والسلخ بالعلوم النافعة الشرعية والعقلية الخلقية والأحكام الفرعية الدينية ، واشتمال صورتها عليها التي توافق العقل والطبع وتنفعهما باستعمالهما إياها في تحصيل مصالح المعاش والمباغي الطبيعية والمطالب العقلية العملية بإذن الشرع من الوجه الحلال والتصرّف المباح وأنواع الرخص في جميع التمتعات بعد حصول الكمال وتمام السلوك.

(وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْساً فَادَّارَأْتُمْ فِيها وَاللهُ مُخْرِجٌ ما كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ (72))
(وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْساً فَادَّارَأْتُمْ فِيها) إشارة إلى بيان سبب الأمر بذبح البقرة ، وهو أنه كان شيخ موسر من بني إسرائيل وله ابن شاب فقتله ابنا عمه ، أو بنو عمه ، طمعا في ميراث أبيه وطرحوه بين أسباط بني إسرائيل على الطريق ، فتدافعوا في قتله ، فورد الأمر بذبح البقرة وضربه ببعضها ليحيا فيخبر بالقاتل. فالشابّ هو القلب الذي هو ابن الروح الموسر بأموال المعارف والحكم ، وقتله منعه عن حياته الحقيقية وإزالة العشق الحقيقي الذي هو حياته عنه باستيلاء قوّتي الشهوة والغضب اللذين هما ابنا عمه النفس الحيوانية أو جميع قواها عليه ، إذ الروح والنفس إخوان باعتبار فيضانهما وولادتهما من أب هو العقل الفعال المسمّى «روح القدس» على قياس ما ورد في الحديث : «أكرموا عمتكم النخلة ، فإنها خلقت من بقية طين آدم». فإن النفس النباتية الكاملة التي إذا كانت عمّة النفس الإنسانية ، كانت النفس الحيوانية عمّتها. قتلاه طمعا في استعمال المعاني العقلية والحكم التي هي ميراث أبيه في تحصيل مطالبهما وكمالاتهما ولذاتهما بأنواع الحيل والمكر وصناعة الفكر. وطرحاه على طرق القوى الروحانية والطبيعية بين محالها وتدافعهم في قتله هو إحالة كلّ قوة منها الفساد والإثم إلى الأخرى ، والصلاح والبراءة إلى نفسها لتنازعها وتجاذبها في أفعالها ولذاتها واحتجاب كلّ منها بما يلائمها عما يلائم الأخرى ورؤيتها الصلاح فيه والفساد في ضدّه. (وَاللهُ مُخْرِجٌ ما كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ) من نور القلب وحياته ، بالاستيلاء عليه.

(فَقُلْنا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِها كَذلِكَ يُحْيِ اللهُ الْمَوْتى وَيُرِيكُمْ آياتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (73))
(فَقُلْنا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِها) بذنبها أو لسانها ، على ما ورد في القصة ، ليحيا ، فيخبركم بالقاتل. وضرب الذنب إشارة إلى إماتة النفس وتبقية أضعف قواها وآخرها ، وجهتها التي تلي النفس النباتية ورابطتها بها كالحسّ اللمسيّ مثلا وسائر الحواس الظاهرة فإنها ذنبها. وضرب اللسان إشارة إلى تعديل أخلاقها وقواها وتبقية فكرها الذي هو لسانها ، وهما طريقان : طريق الرياضة وإماتة الغضب والشهوة ، كما هو طريق التصوّف وهو بالنفوس القوية الجانية المستولية الطاغية أولى ، وطريق التحصيل وتعديل الأخلاق كما هو سبيل العلماء والحكماء ، وهو بالنفوس الضعيفة والصافية المنقادة اللينة أولى. فضربوه ، فقام وأوداجه تشخب دما ، وأخبر بقاتليه ، أي : صار حيا قائما بالحياة الحقيقية وعليه أثر القتل لتعلقه بالبدن وتلوّثه بمطالبه بحسب الضرورة ، وعرف حال القوى البدنية في منعها إياه عن إدراكه وحجبها له عن نوره. (كَذلِكَ يُحْيِ اللهُ الْمَوْتى) أي : مثل ذلك الإحياء العظيم ، يحيي الله موتى الجهل بالحياة الحقيقية العملية (وَيُرِيكُمْ) دلائله وآيات صفاته لكي تعقلون.

(ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ فَهِيَ كَالْحِجارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً وَإِنَّ مِنَ الْحِجارَةِ لَما يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهارُ وَإِنَّ مِنْها لَما يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْماءُ وَإِنَّ مِنْها لَما يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللهِ وَمَا اللهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (74) أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ وَقَدْ كانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلامَ اللهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ ما عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (75) وَإِذا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قالُوا آمَنَّا وَإِذا خَلا بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ قالُوا أَتُحَدِّثُونَهُمْ بِما فَتَحَ اللهُ عَلَيْكُمْ لِيُحَاجُّوكُمْ بِهِ عِنْدَ رَبِّكُمْ أَفَلا تَعْقِلُونَ (76) أَوَلا يَعْلَمُونَ أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ ما يُسِرُّونَ وَما يُعْلِنُونَ (77) وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لا يَعْلَمُونَ الْكِتابَ إِلاَّ أَمانِيَّ وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَظُنُّونَ (78))
(فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هذا مِنْ عِنْدِ اللهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ (79))
(ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ) أي : بعد تطاول الأمد ، وتراخي مدّة الفترة ، وتتابع التلوينات ، وتوالي النزغات ، قست قلوبكم بكثرة مباشرة الأمور واللذات البدنية ، وملابسة الصفات النفسانية (فَهِيَ كَالْحِجارَةِ) من عدم تأثرها بالنقش العلميّ (أَوْ) شيء (أَشَدُّ قَسْوَةً) منها ، كالحديد مثلا. ثم بين أنّ الحجارة ألين منها بأنّ حالها منحصر في الوجوه الثلاثة المذكورة ، فأفاد أن القلوب أربعة : قلب تنوّر بالنور الإلهيّ منطمسا فيه ، واستغرق في البحر العلميّ منغمسا فيه ، فانفجرت منه أنهار العلم ، فمن شرب منها يحيا أبدا كقلوب أهل الله السابقين وهو المشار إليه بقوله تعالى : (وَإِنَّ مِنَ الْحِجارَةِ لَما يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهارُ) وقلب ارتوى من العلم ، فحفظ ووعى ، فانتفع به الناس ، كقلوب العلماء الراسخين وهو المشار إليه بقوله : (وَإِنَّ مِنْها لَما يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْماءُ) وقلب خشع وانقاد واستسلم وأطاع ، كقلوب العباد والزهّاد من المسلمين ، وهو المشار إليه بقوله : (وَإِنَّ مِنْها لَما يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللهِ) وأدنى أحوال حاله هو الهبوط من خشية الله ، أي : الانقياد لما أمر الله من الميل إلى المركز بالسلاسة. وبقي قلب لم يتأثر قطّ بالعلم ولم يتلين بالخوف آبيا للهدى ، متكبرا ، ممتلئا بالهوى ، متمرّدا ، فلا يوجد من الجواهر ما يشبهه لقبول جميعها ما أمر الله به ، فكيف بالحديد الذي يلين لما يراد منه؟ قال النبي عليه‌السلام : «مثل ما بعثني الله به من الهدى والعلم كمثل الغيث الكثير ، أصاب أرضا فكانت طائفة منها طيبة قبلت الماء وأنبتت الكلأ والعشب الكثير ، وكانت منها طائفة أجادب (1) أمسكت الماء ، فنفع الله بها الناس فشربوا وسقوا وزرعوا ، وأصاب منها طائفة أخرى إنما هي قيعان لا تمسك ماء ولا تنبت كلاء. فذلك مثل من فقه في الدين فعلم وعلّم ، ومثل من لم يرفع بذلك رأسا ولم يقبل هدى الله الذي أرسلت به». فبين عليه‌السلام القلوب الثلاثة الأخيرة ، والأول من الأربعة هو القلب المحمديّ. (وَمَا اللهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ) تهديد للقاسية قلوبهم ، أي : الله مطلع فيحجبهم عن نوره ويتركهم في ظلماتهم ، والآيات التي تتلوها ظاهره.

وتأويل الأولى : (أَفَتَطْمَعُونَ) أن يوحدوا بتوحيد الصفات لأجل هدايتكم (وَقَدْ كانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ) يقبلون صفات الله ثم يحرّفونها بنسبتها إلى أنفسهم (مِنْ بَعْدِ ما عَقَلُوهُ) أي : علموا توحيد الصفات وما وجدوه بالعيان (وَهُمْ يَعْلَمُونَ) أن تلك الصفات لله ، لكن نفوسهم ينتحلونها بالإشراك حالة ذهول العقل عن استيلائها على القلب لعدم كون توحيدهم ملكة وحالا ، بل علما. (فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتابَ بِأَيْدِيهِمْ) ، أي : ويل لمن بقيت منه بقايا صفات النفس وهو لا يشعر بها أو يشعر فيحتال أو لا يحتفل بها فيفعل ويقول بنفسه وصفاتها ، ويدّعي أنه من عند الله ليكتسب به حظا من حظوظ النفس ، بل عين ذلك القول والفعل ونسبته إلى الله حظ تامّ لها وذنب لا ذنب أقوى منه. ويمكن أن تؤوّل الآيات الثلاث الأول على الوجه الثاني المبني على التطبيق فيقال : أفتطمعون ، أيتها القوى الروحانية ، أن تؤمن هذه القوى النفسانية لأجل هدايتكم منقادة. وقد كان فريق منهم كالوهم والخيال يسمعون كلام الله ، أي : يتلقفون المعاني الواردة من عند الله على القلب ثم يحرّفونه بالمحاكاة وكثرة الانتقالات وجعلها جزئية ، وإعطائها أحكام الجزئيات كما في المنامات والواقعات. من بعد ما عقلوه ، أي : أدركوه على حاله وهم يعلمون تحريفها وانتقالاتها إلى اللوازم والأشباه والأضداد.
وإذا لقوكم بالتوجه نحوكم ، وتلقن مدركاتكم عند حضوركم ، ومشايعتها إياكم ، وعروجها ، أذعنوا وصدّقوا. (وَإِذا خَلا بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ) في أوقات الغفلات ، منع بعضهم بعضا عن إلقاء ما فتح الله عليهم من مدركاتهم المحسوسة والمخيلة والموهومة ليركبوا منها الحجج ويحاجوهم بها في الحضرة الروحانية عند ربهم.
(أَوَلا يَعْلَمُونَ أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ ما يُسِرُّونَ) عنكم من مدركاتهم (وَما يُعْلِنُونَ) فيطلعكم عليها وينصركم عليهم (وَمِنْهُمْ) أي : القوى الطبيعية الغير المدركة والحواس الظاهرة (لا يَعْلَمُونَ) كتاب المعاني المعقولة (إِلَّا أَمانِيَ) لذاتهم وشهواتهم وما يتيقنون خاتمة عاقبتها ومضرّتها في طريق الكمال ، بل يظنون نفعها وخيريتها.

(وَقالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلاَّ أَيَّاماً مَعْدُودَةً قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِنْدَ اللهِ عَهْداً فَلَنْ يُخْلِفَ اللهُ عَهْدَهُ أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللهِ ما لا تَعْلَمُونَ (80) بَلى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (81) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (82))
(وَقالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ) إلى آخر الآية. اعتقدوا أن زمان العقاب يساوي زمان مباشرة الذنب ، ولم يعلموا أنّ الذنب إذا كان معتقدا فاسدا ، ثابتا في النفس ، وهيئة راسخة فيها ، وصار ملكة كصورة ذاتية لها ، كان سببا لتخليد العذاب. وهو معنى قوله تعالى : (وَأَحاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ) أي : استولت عليه واستوعبت كالسواد المستوعب للثوب. ولو لم يكن كذلك لما كانت الطاعة أيضا سبب خلود الثواب.

(وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَ بَنِي إِسْرائِيلَ لا تَعْبُدُونَ إِلاَّ اللهَ وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً وَذِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْناً وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ إِلاَّ قَلِيلاً مِنْكُمْ وَأَنْتُمْ مُعْرِضُونَ (83))
(وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَ بَنِي إِسْرائِيلَ) عاهدناهم بالتوحيد. ومقتضى التوحيد ملاحظة الحضرة الربوبية ومشاهدة تجلياتها في مظاهرها ، والقيام بحقها على حسب ظهور أوصافها. وأول من يظهر عليه صفات الربوبية وآثارها في الظاهر وعالم الشهادة هما الأبوان لمكان النسبة والتربية والعطوفية ، التي هي آثار الموجد الربّ الرحيم فيهما له. فالإحسان إليهما يجب أن يلي عبادة الله بحسب ظهوره في مظهريهما ، ثم ذوي القربى لظهور المواصلة والمرحمة الإلهية فيهم بالنسبة إليه ، ثم اليتامى لاختصاص ولايته وحفظه تعالى بهم فوق من عداهم إذ هو وليّ من لا وليّ له ، ثم المساكين لتوليته رعايتهم ورزقهم بنفسه بلا واسطة غيره ، ثم سائر الناس للمرحمة العامّة بينهم التي هي ظلّ الرحمانية. فالإحسان المأمور به في الآية على درجاته وتفاضله في مراتبه هو تخصيص العبادة بالله مع مشاهدة صفاته في مظاهرها ورعاية حقوق تجلياتها وأحكامها.

(وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَكُمْ لا تَسْفِكُونَ دِماءَكُمْ وَلا تُخْرِجُونَ أَنْفُسَكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ (84))
(وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَكُمْ لا تَسْفِكُونَ دِماءَكُمْ) بهواكم إلى مقارّ النفس وصفاتها وميلكم إلى هواها وطباعها ، ومتاركتكم حياتكم الحقيقية ، وخواص أفعالكم لأجل تحصيل مآربها ولذاتها (وَلا تُخْرِجُونَ أَنْفُسَكُمْ) أي : ذواتكم. إذ يعبر بالنفس عن الذات (مِنْ دِيارِكُمْ) أي : مقارّكم الروحانية والروضات القدسية (ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ) بقبولكم لذلك (وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ) عليه باستعداداتكم الأوليّة وعقولكم الفطرية.

(ثُمَّ أَنْتُمْ هؤُلاءِ تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ وَتُخْرِجُونَ فَرِيقاً مِنْكُمْ مِنْ دِيارِهِمْ تَظاهَرُونَ عَلَيْهِمْ بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ وَإِنْ يَأْتُوكُمْ أُسارى تُفادُوهُمْ وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْراجُهُمْ أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَما جَزاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذلِكَ مِنْكُمْ إِلاَّ خِزْيٌ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَيَوْمَ الْقِيامَةِ يُرَدُّونَ إِلى أَشَدِّ الْعَذابِ وَمَا اللهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (85) أُولئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْحَياةَ الدُّنْيا بِالْآخِرَةِ فَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذابُ وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ (86))
(ثُمَّ أَنْتُمْ هؤُلاءِ) الساقطون عن الفطرة ، المحتجبون عن نور الاستعداد الأصليّ (تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ) بغوايتكم ومتابعتكم للهوى (وَتُخْرِجُونَ فَرِيقاً مِنْكُمْ مِنْ دِيارِهِمْ) أوطانهم القديمة الأصلية ، بإغوائهم وإضلالهم وتحريضهم على ارتكاب المعاصي واتباع الهوى (تَظاهَرُونَ عَلَيْهِمْ) تتعاونون عليهم (بِالْإِثْمِ) بارتكاب الفواحش والمعاصي ليروكم فيتبعوكم فيها (وَالْعُدْوانِ) والاستطالة على الناس ليتعدّى إليهم ظلمكم ، وإلزامكم إياهم رذائل القوّتين البهيمية والسبعية وتحريضكم لهم عليها ، وتزيينكم لهم إياها كما هو عادة ملاحدة المسلمين من أهل الإباحة المدّعين للتوحيد. (وَإِنْ يَأْتُوكُمْ أُسارى) في قيد تبعات ارتكبوها وشين أفعالهم القبيحة ، أخذتكم الندامة وعيرتهم عقولهم وعقول أبناء جنسهم بما لحقهم من العار والشنار (تُفادُوهُمْ) بكلمات الحكمة والموعظة والنصيحة الدالة على أنّ اللذات المستعلية هي : العقلية والروحية وعاقبة اتباع الهوى والنفس والشيطان وخيمة ، ومشاركة البهائم والهوامّ في أفعالها مذمومة رديئة ، فيتيقظوا بها ويتخلصوا من قيد الهوى سويعة كما نشاهد من حال علوج مدّعي التوحيد والمعرفة والحكمة وأتباعهم في زماننا هذا.
(أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتابِ) أي : كتاب العقل والشرع قولا وإقرارا ، فتقرون به وتصدّقونه وهو أنّ اتباع الهوى والنفس مذموم ، موجب للوبال والهلاك والخسران (وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ) فعلا وعملا فلا تنتهون عما نهاكم عنه ، وهو إباحتهم واستحلالهم للمحرّمات والمنهيات (فَما جَزاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذلِكَ مِنْكُمْ إِلَّا خِزْيٌ) افتضاح وذلة (فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَيَوْمَ الْقِيامَةِ) أي : حال المفارقة التي هي القيامة الصغرى (يُرَدُّونَ إِلى أَشَدِّ الْعَذابِ) الذي هو تعذيبهم بالهيئات المظلمة الراسخة في نفوسهم واحتراقهم بنيرانها أو مسخهم عن صورهم بالكلية ، وتضاعف البليّة (وَمَا اللهُ بِغافِلٍ) عن أعمالكم ، أحصاها وضبطها في أنفسكم وكتبها عليكم ، كما قال تعالى : (يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللهُ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُهُمْ بِما عَمِلُوا أَحْصاهُ اللهُ وَنَسُوهُ) .

(وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ وَقَفَّيْنا مِنْ بَعْدِهِ بِالرُّسُلِ وَآتَيْنا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّناتِ وَأَيَّدْناهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ أَفَكُلَّما جاءَكُمْ رَسُولٌ بِما لا تَهْوى أَنْفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقاً كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقاً تَقْتُلُونَ (87) وَقالُوا قُلُوبُنا غُلْفٌ بَلْ لَعَنَهُمُ اللهُ بِكُفْرِهِمْ فَقَلِيلاً ما يُؤْمِنُونَ (88) وَلَمَّا جاءَهُمْ كِتابٌ مِنْ عِنْدِ اللهِ مُصَدِّقٌ لِما مَعَهُمْ وَكانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جاءَهُمْ ما عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللهِ عَلَى الْكافِرِينَ (89) بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ أَنْ يَكْفُرُوا بِما أَنْزَلَ اللهُ بَغْياً أَنْ يُنَزِّلَ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ فَباؤُ بِغَضَبٍ عَلى غَضَبٍ وَلِلْكافِرِينَ عَذابٌ مُهِينٌ (90) وَإِذا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا بِما أَنْزَلَ اللهُ قالُوا نُؤْمِنُ بِما أُنْزِلَ عَلَيْنا وَيَكْفُرُونَ بِما وَراءَهُ وَهُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقاً لِما مَعَهُمْ قُلْ فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِياءَ اللهِ مِنْ قَبْلُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (91) * وَلَقَدْ جاءَكُمْ مُوسى بِالْبَيِّناتِ ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَنْتُمْ ظالِمُونَ (92) وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَكُمْ وَرَفَعْنا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا ما آتَيْناكُمْ بِقُوَّةٍ وَاسْمَعُوا قالُوا سَمِعْنا وَعَصَيْنا وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ بِكُفْرِهِمْ قُلْ بِئْسَما يَأْمُرُكُمْ بِهِ إِيمانُكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (93) قُلْ إِنْ كانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الْآخِرَةُ عِنْدَ اللهِ خالِصَةً مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (94) وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَداً بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (95) وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلى حَياةٍ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ وَما هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذابِ أَنْ يُعَمَّرَ وَاللهُ بَصِيرٌ بِما يَعْمَلُونَ (96) قُلْ مَنْ كانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللهِ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ وَهُدىً وَبُشْرى لِلْمُؤْمِنِينَ (97) مَنْ كانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكالَ فَإِنَّ اللهَ عَدُوٌّ لِلْكافِرِينَ (98) وَلَقَدْ أَنْزَلْنا إِلَيْكَ آياتٍ بَيِّناتٍ وَما يَكْفُرُ بِها إِلاَّ الْفاسِقُونَ (99) أَوَكُلَّما عاهَدُوا عَهْداً نَبَذَهُ فَرِيقٌ مِنْهُمْ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (100) وَلَمَّا جاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْ عِنْدِ اللهِ مُصَدِّقٌ لِما مَعَهُمْ نَبَذَ فَرِيقٌ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ كِتابَ اللهِ وَراءَ ظُهُورِهِمْ كَأَنَّهُمْ لا يَعْلَمُونَ (101))
(وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ) إلى قوله : (لا يَعْلَمُونَ) ظاهر ومعلوم مما مرّ. والظاهر أن جبرائيل هو العقل الفعال. وميكائيل هو روح الفلك السادس ، وعقله المفيض للنفس النباتية الكلية الموكلة بأرزاق العباد. وإسرافيل هو روح الفلك الرابع ، وعقله المفيض للنفس
الحيوانية الكلية ، الموكلة بالحيوانات. وعزرائيل هو روح الفلك السابع الموكل بالأرواح الإنسانية كلها ، يقبضها بنفسه أو بالوسائط التي هي أعوانه ويسلمها إلى الله تعالى.

(وَاتَّبَعُوا ما تَتْلُوا الشَّياطِينُ عَلى مُلْكِ سُلَيْمانَ وَما كَفَرَ سُلَيْمانُ وَلكِنَّ الشَّياطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَما أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبابِلَ هارُوتَ وَمارُوتَ وَما يُعَلِّمانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولا إِنَّما نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُرْ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُما ما يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ وَما هُمْ بِضارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللهِ وَيَتَعَلَّمُونَ ما يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَراهُ ما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ وَلَبِئْسَ ما شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ (102))
(وَاتَّبَعُوا) أي : اتبع اليهود والقوى الروحانية (ما تَتْلُوا) شياطين الأنس الذين هم المتمرّدة العصاة الأشرار ، الأقوياء ، وشياطين الجنّ وهم الأوهام والخيالات والمتخيلات المحجوبة عن نور الروح ، العاصية لأمر العقل المتمرّدة عن طاعة القلب (عَلى) عهد (مُلْكِ سُلَيْمانَ) النبيّ أو سليمان الروح من كتب السحر وعلومه ، يزعمون أنه علم سليمان وبه استولى على الملك وسخّر ما سخّر من الجنّ والإنس والطير وعلم الحيل والشعبذة والموهومات والمتخيلات والسفسطة. (وَما كَفَرَ سُلَيْمانُ) بإسناد التأثير إلى غير الله ، إذ السحر كفر واحتجاب عن مؤثرية الله ، بإسناد التأثير إلى غيره (وَلكِنَّ الشَّياطِينَ كَفَرُوا) احتجبوا ولم يعلموا أن لا مؤثر إلا الله (يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَما أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ) أي : العقل النظري والعمليّ المائلين إلى النفس المنكوسين من بئر الطبيعة لتوجههما إليها باستجذاب النفس إياهما إليها (بِبابِلَ) الصدر المعذبين بضيق المكان بين أبخرة الموادّ وأدخنة نيران الشهوات من العلوم والأعمال من باب الحيل والنيرنجات والطلسمات على التأويلين (وَما يُعَلِّمانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولا إِنَّما نَحْنُ فِتْنَةٌ) امتحان وبلاء من الله لقوّة النورية وبقية الملكوتية فيهما ، فينبهان على حالهما بالنور العقليّ (فَلا تَكْفُرْ) باستعمال هذا العلم في المفاسد والمناهي وإسناد التأثير إليه (فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُما ما يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ) القلب والنفس ، وبين الروح والنفس ، وتكدير القلب (وَما هُمْ بِضارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ) أي : إلا إذا أراد الله أن يضرّه عند ذلك الفعل ، فيفعل ما يريد ويكون زيادة ابتلاء للساحر وإمهالا له في كفره واحتجابه لرؤيته ذلك من تأثير سحره. (وَيَتَعَلَّمُونَ ما يَضُرُّهُمْ) بزيادة الاحتجاب وشدّة الميل والهوى (وَلا يَنْفَعُهُمْ) في رفع الحجاب برؤيتهم ذلك ابتلاء من الله واستعاذاتهم بالله ليقيهم من شرّه. (وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَراهُ ما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ) أي : نصيب ، لإقباله على النفس والهوى بالكلية واستعمال ذلك في اكتساب حطام الدنيا وتمتعاتها.

(وَلَوْ أَنَّهُمْ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَمَثُوبَةٌ مِنْ عِنْدِ اللهِ خَيْرٌ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ (103) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقُولُوا راعِنا وَقُولُوا انْظُرْنا وَاسْمَعُوا وَلِلْكافِرِينَ عَذابٌ أَلِيمٌ (104) ما يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ وَلا الْمُشْرِكِينَ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْكُمْ مِنْ خَيْرٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَاللهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشاءُ وَاللهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (105))
(وَلَوْ أَنَّهُمْ آمَنُوا) برؤية الأفعال من الله (وَاتَّقَوْا) الشرك بنسبة التأثير إلى غيره (لَمَثُوبَةٌ) دائمة كائنة (مِنْ عِنْدِ اللهِ) من الأنوار الروحية ، والمواهب الفتوحية ، والأحوال القلبية ، والمعارف الإلهية (خَيْرٌ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ).

(ما نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِها نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْها أَوْ مِثْلِها أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (106))
(ما نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ) بإبطال حكمها وإبقاء لفظها (أَوْ نُنْسِها) ونذهب بها من قبلك بإزالة لفظها ومعناها ، أو لفظها دون معناها ، كآية الرجم (نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْها) أي : بما هو أصلح في بابه منها في بابها أو يساويها في الخير والصلاح. واعلم أن الأحكام المثبتة في اللوح المحفوظ إما مخصوصة وإما عامة ، والمخصوصة إما أن تختص بحسب الأشخاص وإما أن تختص بحسب الأزمنة ، فإذا نزلت بقلب الرسول فالتي تختص بالأشخاص تبقى بقاء الأشخاص ، والتي تختص بالأزمنة تنسخ وتزال بانقراض تلك الأزمنة ، قصيرة كانت كمنسوخات القرآن ، أو طويلة كأحكام الشرائع المتقدمة. ولا ينافي ذلك ثبوتها في اللوح إذ كانت فيه كذلك ، والعامة تبقى ما بقي الدهر كتكلم الإنسان واستواء قامته مثلا.

(أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللهَ لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ (107))
(أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللهَ لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) أي : له ملك سموات عالم الأرواح وأرض الأجساد وهو المتصرف فيهما بيد قدرته بل كله ظاهره وباطنه فلم يبق شيء غيره ينصركم ويليكم.

(أَمْ تُرِيدُونَ أَنْ تَسْئَلُوا رَسُولَكُمْ كَما سُئِلَ مُوسى مِنْ قَبْلُ وَمَنْ يَتَبَدَّلِ الْكُفْرَ بِالْإِيمانِ فَقَدْ ضَلَّ سَواءَ السَّبِيلِ (108))
(أَمْ تُرِيدُونَ أَنْ تَسْئَلُوا رَسُولَكُمْ) من قبل اللذات الدينية الحسيّة والشهوات الخسيسة النفسية (كَما سُئِلَ مُوسى مِنْ قَبْلُ وَمَنْ يَتَبَدَّلِ) الظلمة بالنور (فَقَدْ ضَلَ) الطريق المستقيم.

(وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمانِكُمْ كُفَّاراً حَسَداً مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللهُ بِأَمْرِهِ إِنَّ اللهَ
عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (109) وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَما تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللهِ إِنَّ اللهَ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (110) وَقالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلاَّ مَنْ كانَ هُوداً أَوْ نَصارى تِلْكَ أَمانِيُّهُمْ قُلْ هاتُوا بُرْهانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (111) بَلى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (112))
(وَقالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كانَ هُوداً أَوْ نَصارى) أي : قالت اليهود : لن يدخل الجنة المعهودة عندهم ، أي : جنة الظاهر وعالم الملك التي هي جنة الأفعال وجنة النفس إلا من كان هودا. وقالت النصارى : لن يدخل الجنة المعهودة عندهم ، أي : جنة الباطن وعالم الملكوت التي هي جنة الصفات ، وجنة القلب إلا من كان نصرانيا. ولهذا قال عيسى عليه‌السلام في دعوتهم إلى جنّتهم : «لن يلج ملكوت السموات من لم يولد مرّتين» ، وكانت دعوته إلى السماء أي : السماء الروحانية (تِلْكَ أَمانِيُّهُمْ) أي : غاية مطالبهم التي وقفوا على حدّها واحتجبوا بها عما فوقها (قُلْ هاتُوا بُرْهانَكُمْ) أي : دليلكم الدال على نفي دخول غيركم جنّتكم (إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) في دعواكم ، بل الدليل دلّ على نقيض مدعاكم.
فإنّ (مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ) أي : ذاته الموجودة مع جميع لوازمها وعوارضها (لِلَّهِ) بالتوحيد الذاتيّ عند المحو الكليّ والفناء في ذات الله (وَهُوَ مُحْسِنٌ) أي : مستقيم في أحواله بالبقاء بعد الفناء ، مشاهد ربّه في أعماله ، راجع من الشهود الذاتيّ إلى مقام الإحسان الصفاتيّ الذي هو المشاهدة بالوجود الحقانيّ لمكان الاستقامة والعبادة ، لا بالوجود النفساني (فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ) أي : ما ذكرتم من الجنة وأصفى وألذّ لاختصاصها بمقام العندية أي المشاهدة التي احتجبتهم عنها (وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ) أي : وزيادة على ما لكم من الجنة وهو عدم خوفهم من احتجاب الذات وبقاء النفس اللازم لوجود بقيتهم وعدم حزنهم على ما فاتهم بسبب الوقوف بحجاب جنّة الأفعال والصفات والتلذّذ بها والاستراحة فيها والاستدامة إليها من شهود جمال الذات. فإنهم وإن تركوها بالشوق إلى تجلّي الذات فإنها حاصلة لهم وأدنى مقامهم تحت جنة الذات.

(وَقالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصارى عَلى شَيْءٍ وَقالَتِ النَّصارى لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلى شَيْءٍ وَهُمْ يَتْلُونَ الْكِتابَ كَذلِكَ قالَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ مِثْلَ قَوْلِهِمْ فَاللهُ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (113))
(وَقالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصارى عَلى شَيْءٍ) لاحتجابهم بدينهم عن دينهم ، وكذا قالت النصارى لاحتجابهم بالباطن عن الظاهر كما احتجب اليهود بالظاهر عن الباطن على ما هو حال أهل المذاهب اليوم في الإسلام.
(وَهُمْ يَتْلُونَ الْكِتابَ) وفيه ما يرشدهم إلى رفع الحجاب ، ورؤية حق كل دين ومذهب ، وليس أهل ذلك الدين والمذهب حقهم بباطل لتقيّدهم بمعتقدهم ، فما الفرق بينهم وبين الذين لا علم لهم ولا كتاب ، كالمشركين ، فإنهم يقولون مثل قولهم بل هم أعذر ، إذ ليس عليهم إلا حجة العقل وهم بحجة العقل والشرع (فَاللهُ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ) بالحق في اختلافاتهم (يَوْمَ) قيام (الْقِيامَةِ) الكبرى وظهور الوحدة الذاتية عند خروج المهديّ عليه‌السلام. وفي الحديث ما معناه : «إنّ الله يتجلى لعباده في صورة معتقداتهم فيعرفونه ، ثم يتحوّل عن صورته إلى صورة أخرى فينكرونه» ، وحينئذ يكونون كلهم ضالّين محجوبين إلا ما شاء الله وهو الموحد الذي لم يتقيد بصورة معتقده.

(وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَساجِدَ اللهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعى فِي خَرابِها أُولئِكَ ما كانَ لَهُمْ أَنْ يَدْخُلُوها إِلاَّ خائِفِينَ لَهُمْ فِي الدُّنْيا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابٌ عَظِيمٌ (114))
(وَمَنْ أَظْلَمُ) أي : أنقص حقا وأبخس حظا (مِمَّنْ مَنَعَ مَساجِدَ اللهِ) أي : مواضع سجود الله التي هي القلوب التي يعرف فيها فيسجد بالفناء الذاتيّ (أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ) الخاص الذي هو الاسم الأعظم ، إذ لا يتجلى بهذا الاسم إلا في القلب ، وهو التجلي بالذات مع جميع الصفات أو اسمه المخصوص بكل واحد منها ، أي الكمال اللائق باستعداده المقتضى له. (وَسَعى فِي خَرابِها) بتكديرها بالتعصبات الباردة وغلبة واستيلاء التمنيات عليها ، ومنع أهلها المستعدّين عنها بالهرج والمرج وتهييج الفتن اللازمة لتجاذب قوى النفس ودواعي الشيطان والوهم (أُولئِكَ ما كانَ لَهُمْ أَنْ يَدْخُلُوها إِلَّا خائِفِينَ) ويصلوا إليها ، أي : منكسرين لظهور تجلّي الحق فيها (لَهُمْ فِي الدُّنْيا خِزْيٌ) أي : افتضاح وذلّة بظهور بطلان دينهم ومعتقدهم ، وفسخه بدين الحق وانقهارهم وتحسرهم ومغلوبيتهم. (وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابٌ عَظِيمٌ) هو الاحتجاب عن الحق بدينهم.

(وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللهِ إِنَّ اللهَ واسِعٌ عَلِيمٌ (115))
(وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ) أي : عالم النور والظهور الذي هو جنّة النصارى وقبلتهم بالحقيقة هو باطنه (وَالْمَغْرِبُ) أي : عالم الظلمة والاختفاء الذي هو جنّة اليهود وقبلتهم بالحقيقة هو ظاهره (فَأَيْنَما تُوَلُّوا) أي : أي جهة تتوجهوا من الظاهر والباطن (فَثَمَّ وَجْهُ اللهِ) أي : ذات الله المتجلية بجميع صفاته ، أو ولله الإشراق على قلوبكم بالظهور فيها والتجلي لها بصفة جماله حالة شهودكم وفنائكم ، والغروب فيها بتستره واحتجابه بصورها وذواتها ، واختفائه بصفة جلاله حالة بقائكم بعد الفناء. فأيّ جهة تتوجهوا حينئذ فثمّ وجهه لم يكن شيء إلا إيّاه وحده (إِنَّ اللهَ واسِعٌ) جميع الوجود شامل لجميع الجهات والوجودات (عَلِيمٌ) بكل العلوم والمعلومات.

(وَقالُوا اتَّخَذَ اللهُ وَلَداً سُبْحانَهُ بَلْ لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قانِتُونَ (116))
(وَقالُوا اتَّخَذَ اللهُ وَلَداً) أي : أوجد موجودا مستقلا بذاته مخصوصا دونه (سُبْحانَهُ) ننزّهه عن أن يكون غيره شيء فضلا عما يجانسه (بَلْ لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) أي : له عالم الأرواح والأجساد وهي باطنه وظاهره ، كما تقول : له الذات والوجه والصفات وأمثال ذلك. (كُلٌّ لَهُ قانِتُونَ) موجودون بوجوده ، فاعلون بفعله ، معدومون بذواتهم ، وهو غاية الطاعة والقيام بحقه إذ هو الوجود المطلق ، فلا يوجد بدونه شيء. والوجودات المعينة صفاته وأسماؤه لامتيازها بتعيّناتها التي هي أمور إمكانية عدمية ليست عينه بالاعتبار العقليّ الذي يقسمها إلى الوجود والماهية التي هي بدون الوجود ليست شيئا في الخارج ، لكن في العقل. والعقليات باطنه ، فهي في الحقيقة ليست غيره فلا يكون غيره موجودا حتى يكون ولدا ، أي : معلولا أو مخلوقا أو ما شئت فسمه.

(بَدِيعُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَإِذا قَضى أَمْراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (117))
(بَدِيعُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) أي : مبدع سماواته وأرضه غير مسبوقة بمادّة ومدة ، بل هي ظلال ذاته ومنشأ عالميته منورة باسمه النورانيّ ، موجودة بوجوده الخارجيّ ولو لم يكن جهات الإمكان واعتبارات العقل بحسب اليقينيات لما اعتبرت وجوداتها أصلا إذ هي بلا هو غير شيء فلا تكون معه موجودة بالمقارنة بل بالتحقيق بوجوده ، ولا تكون غيره بالمفارقة بل بالاعتبار العقلي. فهي باعتبار تعيناتها خلق ، وباعتبار حقيقتها حق.
(وَإِذا قَضى أَمْراً) أي حكم به (فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) أي : فلا يكون إلا تعلق إرادته به فيوجد بلا تخلل زمان ولا توسط شيء ، بل معا. وذلك التعلق هو قوله وإلا لم يكن ثمّ قول ولا صوت.

(وَقالَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ لَوْ لا يُكَلِّمُنَا اللهُ أَوْ تَأْتِينا آيَةٌ كَذلِكَ قالَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِثْلَ قَوْلِهِمْ تَشابَهَتْ قُلُوبُهُمْ قَدْ بَيَّنَّا الْآياتِ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (118) إِنَّا أَرْسَلْناكَ بِالْحَقِّ بَشِيراً وَنَذِيراً وَلا تُسْئَلُ عَنْ أَصْحابِ الْجَحِيمِ (119) وَلَنْ تَرْضى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلا النَّصارى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إِنَّ هُدَى اللهِ هُوَ الْهُدى وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْواءَهُمْ بَعْدَ الَّذِي جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ ما لَكَ مِنَ اللهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ (120) الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاوَتِهِ أُولئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ (121) يا بَنِي إِسْرائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعالَمِينَ (122) وَاتَّقُوا يَوْماً لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً وَلا يُقْبَلُ مِنْها عَدْلٌ وَلا تَنْفَعُها شَفاعَةٌ وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ (123))

(وَقالَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ) علم التوحيد من المشركين (لَوْ لا يُكَلِّمُنَا اللهُ أَوْ تَأْتِينا آيَةٌ) إلى قوله : (تَشابَهَتْ قُلُوبُهُمْ) في الجهل بعلم التوحيد وبكلام الله وآياته ، إذ العلم بهما فرع علم التوحيد (قَدْ بَيَّنَّا) دلائل التوحيد وكيفية المكالمة لأهل الإيقان (وَلا تُسْئَلُ عَنْ أَصْحابِ الْجَحِيمِ) أي : ولا تؤخذ باحتجابهم وما عليك أن تنقذهم من ظلمات حجبهم ، إنما عليك أن تدعوهم بالبشارة والإنذار. (قُلْ إِنَّ هُدَى اللهِ هُوَ الْهُدى) أي : طريق الوحدة المخصوصة بالحق هو الطريق لا غير. كما قال عليّ عليه‌السلام : «اليمين والشمال مضلّة ، والطريق الوسطى هي الجادّة». (وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْواءَهُمْ بَعْدَ الَّذِي جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ) أي : من علم التوحيد والمعرفة (ما لَكَ مِنَ اللهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ) لامتناع وجود غيره.

(وَإِذِ ابْتَلى إِبْراهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِماتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قالَ إِنِّي جاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِماماً قالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قالَ لا يَنالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ (124) وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْناً وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقامِ إِبْراهِيمَ مُصَلًّى وَعَهِدْنا إِلى إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ أَنْ طَهِّرا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ (125))
(وَإِذِ ابْتَلى إِبْراهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِماتٍ) أي : بمراتب الروحانيات ، كالقلب والسرّ والروح والخفاء والوحدة والأحوال والمقامات ، التي يعبر بها على تلك المراتب كالتسليم والتوكل والرضا وعلومها (فَأَتَمَّهُنَ) بالسلوك إلى الله وفي الله حتى الفناء (قالَ إِنِّي جاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِماماً) بالبقاء بعد الفناء ، والرجوع إلى الخلق من الحق تؤمّهم وتهديهم سلوك سبيلي ويقتدون بك فيهتدون. (قالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي) أي : واجعل بعض ذرّيتي أيضا إماما (قالَ) قد يكون منهم ظالمون و (لا يَنالُ عَهْدِي) إياهم ، أي : لا يكونون خلفائي ولا أعهد إلى الظالمين بالإمامة (وَإِذْ جَعَلْنَا) بيت القلب (مَثابَةً) أي : مرجعا ومبوّأ (لِلنَّاسِ وَأَمْناً) ومحل أمن أو سبب أمن وسلامة لهم يأمنون بالوصول إليه والسكون فيه شرّ غوائل صفات النفس وفتك فتاك القوى الطبيعية وإفسادها ، وتخييل شياطين الوهم والخيال ، وإغوائهم ومكائدهم (وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقامِ إِبْراهِيمَ) الذي هو مقام الروح ومقام الخلة (مُصَلًّى) موطنا للصلاة الحقيقية التي هي المشاهدة والمواصلة الإلهية والخلة الذوقية (وَعَهِدْنا إِلى إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ) أمرناهما بتطهير بيت القلب من قاذورات أحاديث النفس ، ونجاسات وساوس الشيطان ، وأرجاس دواعي الهوى ، وأدناس صفات القوى (لِلطَّائِفِينَ) أي : للسالكين المشتاقين الذين يدورون حول القلب في سيرهم (وَالْعاكِفِينَ) الواصلين إلى مقام القلب بالتوكل الذي هو توحيد الأفعال المقيمين فيه بلا تلوينات النفس وإزعاجها منه (وَالرُّكَّعِ) أي : الخاضعين الذين بلغوا إلى مقام تجلّي الصفات ، وكمال مرتبة الرضا والسجود الفانين في الوحدة.

(وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هذا بَلَداً آمِناً وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَراتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ قالَ وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلاً ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلى عَذابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (126))
(وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هذا) الصدر الذي هو حرم القلب (بَلَداً آمِناً) من استيلاء صفات النفس واغتيال العدوّ اللعين ، وتخطف جنّ القوى البدنية أهله (وَارْزُقْ أَهْلَهُ) من ثمرات معارف الروح أو حكمه وأنواره (مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ) من وحد الله منهم وعلم المعاد (قالَ وَمَنْ كَفَرَ) أي : ومن احتجب أيضا من الذين سكنوا الصدر ولا يجاوزون حدّه بالترقي إلى مقام العين لاحتجابهم بالعلم الذي وعاؤه الصدر (فَأُمَتِّعُهُ) تمتيعا (قَلِيلاً) من المعاني العقلية ، والمعلومات الكلية النازلة إليهم من عالم الروح على قدر ما تعيشوا به (ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلى عَذابِ) نار الحرمان والحجاب (وَبِئْسَ الْمَصِيرُ) مصيرهم ، لتعذبهم بنقصانهم وتألمهم بحرمانهم.

(وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْراهِيمُ الْقَواعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْماعِيلُ رَبَّنا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (127) رَبَّنا وَاجْعَلْنا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ وَأَرِنا مَناسِكَنا وَتُبْ عَلَيْنا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (128) رَبَّنا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (129))
(وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْراهِيمُ الْقَواعِدَ مِنَ الْبَيْتِ) قيل : إنّ الكعبة أنزلت من السماء في زمان آدم ولها بابان إلى المشرق والمغرب ، فحجّ آدم عليه‌السلام من أرض الهند واستقبله الملائكة أربعين فرسخا فطاف بالبيت ودخله. ثم رفعت في زمان طوفان نوح عليه‌السلام ، ثم أنزلت مرة أخرى في زمان إبراهيم صلوات الله عليه ، فزارها ورفع قواعدها وجعل بأبيها بابا واحدا.
وقيل : ثم تمخض أبو قبيس فانشق عن الحجر الأسود وكان ياقوتة بيضاء من يواقيت الجنة نزل بها جبرائيل فخبئت فيه في زمان الطوفان إلى زمن إبراهيم عليه‌السلام ، فوضعه إبراهيم مكانه ، ثم اسودّ بملامسة النساء الحيض.
فنزولها في زمان آدم إشارة إلى ظهور القلب في زمانه بوجوده عليه. وكونه ذا بابين شرقيّ وغربيّ إشارة إلى ظهور علم المبدأ والمعاد ، ومعرفة عالم النور ، وعالم الظلمة في زمانه دون علم التوحيد. وقصده زيارتها من أرض الهند إشارة إلى توجهه بالتكوين والاعتدال من عالم الطبيعية الجسمانية المظلمة إلى مقام القلب ، واستقبال الملائكة إشارة إلى تعلق القوى الحيوانية والنباتية بالبدن وظهور آثارها فيه قبل آثار القلب في الأربعين التي تكوّنت فيها بنيته وتخمرت طينته أو توجهه بالسير والسلوك من عالم النفس الظلماني إلى مقام القلب. واستقبال الملائكة تلقي القوى النفسانية والبدنية إياه بقبول الإذعان والأخلاق الجميلة والملكات الفاضلة والتمرّن فيها والتنقل في المقامات قبل وصوله إلى مقام القلب. وطوافه بالبيت إشارة إلى وصوله إلى مقام القلب وسلوكه فيه مع التلوين ، ودخوله إشارة إلى تمكنه واستقامته فيه. ورفعه في زمان الطوفان إلى السماء إشارة إلى احتجاب الناس بغلبة الهوى وطوفان الجهل في زمان نوح عليه‌السلام عن مقام القلب. وبقاؤه في السماء الرابعة ، أي : البيت المعمور الذي هو قلب العالم ونزوله مرة أخرى في زمان إبراهيم عليه‌السلام إشارة إلى اهتداء الناس في زمانه إلى مقام القلب بهدايته. ورفع إبراهيم قواعده وجعله ذا باب واحد إشارة إلى تلقي القلب بسلوكه عليه‌السلام من مقامه إلى مقام الروح الذي هو السر وارتفاع مراتبه ووصوله إلى مقام التوحيد ، إذ هو أوّل من ظهر عليه التوحيد الذاتيّ كما قال عليه‌السلام : (إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفاً وَما أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ (79)) (1). والحجر الأسود إشارة إلى الروح. وتمخض أبي قبيس وانشقاقه عنه إشارة إلى ظهوره بالرياضة وتحرّك آلات البدن باستعمالها بالتفكر والتعبد في طلب ظهوره ، ولهذا قيل : خبئت فيه ، يعني : احتجبت بالبدن. واسوداده بملامسة النساء الحيض إشارة إلى اختفائه وتكدّره بغلبة القوى النفسانية على القلب واستيلائها عليه وتسويدها الوجه النورانيّ الذي يلي الروح منه. وكذا إسماعيل أيضا كان من الموحدين لعطفه عليه في رفع قواعد البيت.
(رَبَّنا وَاجْعَلْنا مُسْلِمَيْنِ لَكَ) أي : لا تكلنا إلى أنفسنا فنسلم بأنفسنا بل بك وبجعلك (رَبَّنا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً) هو محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ولهذا قال عليه‌السلام : «أنا دعوة أبي إبراهيم ، وبشرى عيسى ، ورؤيا أمي» وقد رأت في المنام أن نورا خرج منها فأضاءت لها قصور الشام.

(وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْراهِيمَ إِلاَّ مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ وَلَقَدِ اصْطَفَيْناهُ فِي الدُّنْيا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ (130) إِذْ قالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعالَمِينَ (131) وَوَصَّى بِها إِبْراهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يا بَنِيَّ إِنَّ اللهَ اصْطَفى لَكُمُ الدِّينَ فَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (132) أَمْ كُنْتُمْ شُهَداءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قالَ لِبَنِيهِ ما تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي قالُوا نَعْبُدُ إِلهَكَ وَإِلهَ آبائِكَ إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ إِلهاً واحِداً وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (133) تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَها ما كَسَبَتْ وَلَكُمْ ما كَسَبْتُمْ وَلا تُسْئَلُونَ عَمَّا كانُوا يَعْمَلُونَ (134))
(وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْراهِيمَ) أي : ملّة التوحيد (إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ) إلا من احتجب عن نور العقل بالكلية وبقي في مقام ظلمة نفسه. أي : سفه نفسا على التمييز أو في نفسه على انتزاع الخافض (وَلَقَدِ اصْطَفَيْناهُ) أي : من كان من المحبوبين المرادين بالسابقة الأزلية فاخترناه حالة الفناء في التوحيد (وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ) أي : حالة البقاء بعد الفناء من أهل الاستقامة الصالحين لتدبير النظام وتكميل النوع (إِذْ قالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ) أي : وحد وأسلم ذاتك إلى الله ، يعني : جعله في الأزل من أهل الصف الأول مسلما موحدا مذعنا لربّ العالمين ، فانيا فيه (وَوَصَّى بِها) أي : بكلمة التوحيد (إِبْراهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ) بنيه تأسيا (يا بَنِيَّ إِنَّ اللهَ اصْطَفى لَكُمُ الدِّينَ) أي : دينه الذي يدين به الموحد ، لا دين له غيره ، ولا ذات ، فدينه دين الله وذاته ذات الله (فَلا تَمُوتُنَ) إلا على هذا الدين ، أي : لا تموتنّ بالموت الطبيعي موت الجهل ، بل كونوا ميتين بأنفسكم ، أحياء بالله أبدا ، فيدرككم موت البدن على هذه الحالة (تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ) أي : لا تكونوا مقلدين ولا تكتفوا بالتقليد الصرف في الدين إذ لا اعتماد على النقل ، فليس لأحد إلا ما كسب من العلم والعمل والاعتقاد والسيرة ، لا يجازى أحد بمعتقد غيره ولا بعمله ، فكونوا على بصائركم واطلبوا اليقين واعملوا عليه.

(وَقالُوا كُونُوا هُوداً أَوْ نَصارى تَهْتَدُوا قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (135) قُولُوا آمَنَّا بِاللهِ وَما أُنْزِلَ إِلَيْنا وَما أُنْزِلَ إِلى إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْباطِ وَما أُوتِيَ مُوسى وَعِيسى وَما أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (136) فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ ما آمَنْتُمْ بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّما هُمْ فِي شِقاقٍ فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (137))
(وَقالُوا كُونُوا هُوداً أَوْ نَصارى) كلّ محجوب بدينه يزعم أنّ الحق دينه لا غير (قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ) فإنّ الهدى المطلق هو التوحيد الذي يشمل كلّ دين ، ويرفع كل حجاب كما ذكر بعده في قوله (قُولُوا آمَنَّا بِاللهِ) إلى آخره (لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ) بنفي دين البعض وإبطال ملّته وإثبات الآخر وحقيته ، بل نقول باجتماعهم على الحق واتفاقهم على التوحيد ، ونقبل جميع أديانهم بالتوحيد الشامل لكلها (فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ ما آمَنْتُمْ بِهِ) من التوحيد الجامع من كل دين ومذهب (فَقَدِ اهْتَدَوْا) الاهتداء المطلق ، أي : كل الاهتداء (وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّما هُمْ) في طرف من الدين وشقّ من الهداية يشاقونكم فيه.

(صِبْغَةَ اللهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللهِ صِبْغَةً وَنَحْنُ لَهُ عابِدُونَ (138) قُلْ أَتُحَاجُّونَنا فِي اللهِ وَهُوَ رَبُّنا وَرَبُّكُمْ وَلَنا أَعْمالُنا وَلَكُمْ أَعْمالُكُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُخْلِصُونَ (139) أَمْ تَقُولُونَ إِنَّ إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْباطَ كانُوا هُوداً أَوْ نَصارى قُلْ أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللهُ وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَتَمَ شَهادَةً عِنْدَهُ مِنَ اللهِ وَمَا اللهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (140) تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَها ما كَسَبَتْ وَلَكُمْ ما كَسَبْتُمْ وَلا تُسْئَلُونَ عَمَّا كانُوا يَعْمَلُونَ (141))
(صِبْغَةَ اللهِ) أي : آمنا بالله وصبغنا الله صبغة ، فإن كل ذي اعتقاد ومذهب باطنه مصبوغ بصبغ اعتقاده ودينه ومذهبه. فالمتعبدون بالملل المتفرّقة مصبوغون بصبغ نيتهم ، والمتمذهبون بصبغ إمامهم وقائدهم ، والحكماء بصبغ عقولهم ، وأهل الأهواء والبدع المتفرّقة بصبغ أهوائهم ونفوسهم ، والموحدون بصبغة الله خاصة التي لا صبغ أحسن منها ولا صبغ بعدها. كما قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إن الله تعالى خلق الخلق في ظلمة ثم رشّ عليهم من نوره ، فمن أصاب من ذلك النور اهتدى ، ومن أخطأ ضلّ» ، فذلك النور هو صبغته.

(سَيَقُولُ السُّفَهاءُ مِنَ النَّاسِ ما وَلاَّهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كانُوا عَلَيْها قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (142) وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً وَما جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْها إِلاَّ لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلى عَقِبَيْهِ وَإِنْ كانَتْ لَكَبِيرَةً إِلاَّ عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللهُ وَما كانَ اللهُ لِيُضِيعَ إِيمانَكُمْ إِنَّ اللهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ (143))
(سَيَقُولُ السُّفَهاءُ مِنَ النَّاسِ) سمّاهم سفهاء خفاف العقول ، لعدم وفاء عقولهم بإدراك حقيقة دين الإسلام وقضائها على ما عرفت بحق مذهبها ووقوفها به ، ولذلك كانت محاجتهم في الله مع اتفاقهم في التوحيد واختصاص المسلمين بالإخلاص ، إذ لو أدركوا الحق لأدركوا إخلاصهم فلم تبق محاجتهم معهم. ولو كانت عقولهم رزينة لاستدلت بالآيات وأدركت في كل دين ومذهب حقه ، وفرّقت بين ذلك الدين الحق الذي هو كالروح لذلك ، وبين باطل أهله الذي اختلط به ولبسه خاصة دين الإسلام ، فإن كله حق ، بل هو حق الحقوق ولذلك جعلوا أمّة وسطا أي : عدلا بين الأمم ، فضلاء شهداء عليهم. (ما وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كانُوا عَلَيْها) لأنهم كانوا مقيدين بالجهة فلم يقبلوا إلا مقيدا ولم يعرفوا التوحيد الوافي بالجهات كلها (قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ) على ما مرّ من التأويلين (يَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) أي : طريق الوحدة التي تتساوى الجهات بالنسبة إليها لكون الحق المتوجه إليه لا في جهة ، وكون الجهات كلها فيه وبه وله ، كما قال تعالى : (فَأَيْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللهِ) . ومعنى شهادتهم على الناس وشهادة الرسول عليهم ، اطلاعهم بنور التوحيد على حقوق الأديان ومعرفتهم بحق أهل كل دين وحق ، كل ذي دين من دينه وباطلهم الذي ليس حقهم الذي هو مخترعات نفوسهم وتمنياتها وأكاذيب أخبارهم وملفقاتهم ، ووقوفهم على حدّ دينهم ، وإبطالهم لما عداه من الأديان ، واحتجابهم وتقيدهم بظاهره دون التعمّق إلى باطنه وأصله وإلا عرفوا حقيّة دين الإسلام لأن طريق الحق واحد فلا يستخفون بحق سائر الأديان وخاصة دين الإسلام الذي هو الحق الأعظم الأظهر ، والرسول مطلع على رتبة كل متدين بدينه في دينه ، وحقيقته التي هو عليها من دينه ، وحجابه الذي هو به محجوب عن كمال دينه ، فهو يعرف ذنوبهم وحدود إيمانهم وأعمالهم وحسناتهم وسيئاتهم وإخلاصهم ونفاقهم وغير ذلك بنور الحق ، وأمّته يعرفون ذلك من سائر الأمم بنوره.
(وَما جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْها إِلَّا لِنَعْلَمَ) بالعلم التفصيليّ التابع لوقوع المعلوم لا العلم السابق في عين جميع أوّل الوجود فإنه معلوم له بذلك العلم قبل وجوده ، لأن العلم كله له لا علم لأحد غيره. فعلومنا التي نعلم بها الأشياء تظهر على مظاهرنا من علمه وذلك علمه التفصيليّ أي : علمه في تفاصيل الموجودات. فهو يعلم بذلك العلم التفصيلي بالظاهر في مظاهرنا الأشياء بعد وجودها ، كما يعلمها بالعلم الأول الذي هو في عين الجمع قبل وجودها.
(مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ) في توحيده (مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلى عَقِبَيْهِ) لاحتجابه بالتقييد بالدين (وَإِنْ كانَتْ لَكَبِيرَةً) أي : أنه كانت التحويلة الكبيرة لشاقة ثقيلة (إِلَّا عَلَى الَّذِينَ) هداهم الله إلى التوحيد ونجاهم عن الاحتجاب بالتقييد (وَما كانَ اللهُ لِيُضِيعَ إِيمانَكُمْ) أي : صلاتكم إلى بيت المقدس لكونها لله ، وإذا كانت له فحيثما توجهتم قبلها. ولعمري أنها إنما شقت على طائفتين : المحجوبين بالحق عن الخلق ، والمحجوبين بالخلق عن الحق. فإنّ الأولى عرفت أن التحويلة الأولى التي كانت من الكعبة إلى بيت المقدس هي صورة العروج من مقام القلب والسرّ ، أي : المكاشفة والمكالمة إلى مقام الروح والخفاء ، أي : المشاهدة والمعاينة فحسبوا التحويلة الثانية التي كانت صورة الرجوع إلى مقام القلب حالة الاستقامة والتمكين للدّعوة والنبوّة ومشاهدة الجمع في عين التفصيل ، والتفصيل في عين الجمع ، حيث لا احتجاب عن الخلق بالحق ، ولا عن الحق بالخلق ، هو النزول بعد العروج ، والبعد بعد القرب. وظنوا ضياع السعي إلى المقام الأشرف وحصول الهجر بعد الوصول ، والسقوط عن الرتبة ، فشقّ عليهم ذلك. وأما الطائفة الثانية فتقيدوا بصورة نسكهم وعملهم وما عرفوا حكمة التحويلة ، فظنوا صحة العبادة الثانية دون الأولى ، فشقّ عليهم ضياعها وبطلانها الذي توهموه فهدينا إلى خلاف ما توهموه بما فهم من الآية. (إِنَّ اللهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُفٌ) يرؤف بهم بشرح الصدر ، ورفع الحجاب حال البقاء بعد الفناء للأولى ، وبقبول ما عملت الثانية بصدقهم ، وإن لم يعلموا ما يفعلون (رَحِيمٌ) يرحمهم بالوجود الحقانيّ للأولى وثواب الأعمال والهداية إلى الحقيقة للثانية ، وتوفيقهم للترقي من حالهم ومقامهم إلى مقام اليقين.

(قَدْ نَرى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّماءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضاها فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَحَيْثُ ما كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَمَا اللهُ بِغافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ (144))

(قَدْ نَرى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ) في جهة سماء الروح في مقام الجمع عند الاستغراق في الوحدة والاحتجاب بالحق عن الخلق يؤدك وزر النبوّة ومقام الدعوة ، لعدم التفاتك إلى الكثرة ، ويعسر عليك الرجوع إلى الحق في أوّل حال البقاء بعد الفناء قبل التمكن لقوة توجهك إلى الحق (فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضاها) فلنجعلنّ وجهك يلي قبلة القلب بانشراح الصدر ، كما قال تعالى : (أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ (1) وَوَضَعْنا عَنْكَ وِزْرَكَ (2) الَّذِي أَنْقَضَ ظَهْرَكَ (3)) (1) فإنها قبلة ترضاها لوجود الجمع هناك في صورة التفصيل وعدم احتجاب الوحدة بالكثرة ، فترضى تلك القبلة بدعوة الخلق إلى الحق مع بقاء شهود الوحدة (فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ) جانب الصدر المشروح المحرّم من وصول صفات النفس ، ودواعي الهوى والشيطان (وَحَيْثُ ما كُنْتُمْ) أيها المؤمنون والمحققون ، سواء كنتم في جهة مشرق الروح ومغرب النفس (فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ) جانبه ليتيسر عليكم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في الأولى ، أي : الجهة الشرقية. والترقي عن حالكم ومقامكم ، والتوقي عن احتجابكم بدواعي الهوى والشيطان في الثانية. (وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ) أي : التوراة والإنجيل وكتاب العقل الفرقاني ، أي : العقل المستفاد (لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ) لاهتدائهم بما في الكتاب من توحيد الأفعال ، والصفات ، والدلالة على التوحيد المحمديّ الذاتيّ إليه ، أو بنور العقل المنوّر بالنور الشرعيّ لا المحجوب بالقياس الفكريّ.

(وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ بِكُلِّ آيَةٍ ما تَبِعُوا قِبْلَتَكَ وَما أَنْتَ بِتابِعٍ قِبْلَتَهُمْ وَما بَعْضُهُمْ بِتابِعٍ قِبْلَةَ بَعْضٍ وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْواءَهُمْ مِنْ بَعْدِ ما جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّكَ إِذاً لَمِنَ الظَّالِمِينَ (145))
(وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ بِكُلِّ آيَةٍ) دالة على صحة نبوّتك وحقية قبلتك ولو من كتابهم ، أو ما كانت عقلية قطعية (ما تَبِعُوا قِبْلَتَكَ) لاحتجابهم بدينهم ومعقولهم وتقيدهم به (وَما أَنْتَ بِتابِعٍ قِبْلَتَهُمْ) لعلوك عن رتبة دينهم وترقيك عن مقامهم (وَما بَعْضُهُمْ بِتابِعٍ قِبْلَةَ بَعْضٍ) لاحتجاب كلّ بدينه وتضادّ وجههم الناشئ من التضادّ المركوز في طباعهم (وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْواءَهُمْ) المتفرّقة (مِنْ بَعْدِ ما جاءَكَ مِنَ) علم التوحيد الجامع إيّاك (إِنَّكَ إِذاً لَمِنَ) الناقصين حقك وحقّ مقامك.
[146 ـ 150] (الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْرِفُونَهُ كَما يَعْرِفُونَ أَبْناءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقاً مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (146) الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ (147) وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيها فَاسْتَبِقُوا الْخَيْراتِ أَيْنَ ما تَكُونُوا يَأْتِ بِكُمُ اللهُ جَمِيعاً إِنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (148) وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَإِنَّهُ لَلْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ وَمَا اللهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (149) وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَحَيْثُ ما كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ إِلاَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ فَلا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِي وَلِأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (150))

(الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ) إيتاء فهم ودراية (يَعْرِفُونَهُ كَما يَعْرِفُونَ أَبْناءَهُمْ) أي : كالمحسوس المشاهد ، القريب الدائم الإحساس لقربهم منه بالحقيقة ، وتوسمهم إيّاه بالدلائل الواضحة (وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيها) أي : ولكلّ أحد منكم غاية وكمال بحسب استعداده الأول ، الله موجه وجهه إليها أو هو نفسه موجه نفسه إليها ويتوجه نحوها بمقتضى هويته واستعداده بإذن الله (فَاسْتَبِقُوا الْخَيْراتِ) الأمور المقرّبة إياكم من كمالكم وغايتكم التي خلقتم لأجلها وندبتم إليها (أَيْنَما تَكُونُوا) من مقام وحال دونها أو تخالفها لكونها في مقابلها (يَأْتِ بِكُمُ اللهُ جَمِيعاً) إلى تلك الغاية قريبا أو بعيدا بحسب اقتضاء المقرّبات واستباقها (إِنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ* وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ) من طرق حواسك وميلك إلى حظوظك والاهتمام بمصالحك ومصالح المؤمنين (فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ) أي : فكن حاضرا للحق في قلبك ، مواجها صدرك ، تشاهد مشاهد فيه ، مراعيا جانبه لتكون في الأشياء بالله لا بالنفس (وَحَيْثُ ما كُنْتُمْ) أيها المؤمنون (فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ) جانب الصدر ، تشاهدون مشاهدكم فيه ، مراعين له غير معرضين عنه في حال (لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ) سلطنة بوقوعهم في أعينكم واعتباركم إياهم عند غيبتكم عن الحق ، وترفّعهم عليكم ، أو غلبة بالقول أو الفعل في مقاصدكم ومطالبكم لكونكم بالحق فيها حينئذ ، بل يخضعون وينقادون لكم ، فإنّ حزب الله هم الغالبون (إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ) أي : الكفار المردودين الذين احتجبوا عن الحقّ مطلقا ، فإنهم يرتفعون عليكم ولا يخضعون ، ولا ينقادون لعدم انفعالهم عن الحق مطلقا. وسمّى شبهتهم التي يسوقونها مساق الحجة ، واعتراضهم على المسلمين قولا وفعلا ، وترفهم عليهم في أنفسهم حجة مجازا. وقرئ ألا للتنبيه واستؤنف الذين ظلموا (فَلا تَخْشَوْهُمْ) لأنهم لا يغلبونكم ولا يضرّونكم (وَاخْشَوْنِي) كونوا على هيبة من تجلي عظمتي لئلا يقعوا في قلوبكم وأعينكم ولا يميلوا صدوركم فتميلوا إلى موافقتهم إجلالا لهم وتعظيما لكونكم في الغيبة وبالنفس ، كما قال أمير المؤمنين عليه‌السلام : «عظم الخالق عندك يصغر المخلوق في عينك». ولإتمامي نعمة الكمال عليكم ولإرادتي اهتداءكم أمرتكم بدوام الحضور والمراقبة.

(كَما أَرْسَلْنا فِيكُمْ رَسُولاً مِنْكُمْ يَتْلُوا عَلَيْكُمْ آياتِنا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُمْ ما لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ (151) فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلا تَكْفُرُونِ (152))
(كَما أَرْسَلْنا) أي : كما ذكرتم بإرسال رسول (فِيكُمْ) من جنسكم ليمكنكم التلقي والتعلم ، وقبول الهداية منه لجنسية النفس ورابطة البشرية (فَاذْكُرُونِي) بالإجابة والطاعة والإرادة (أَذْكُرْكُمْ) بالمزيد والتوالي للسلوك وإفاضة نور اليقين (وَاشْكُرُوا لِي) على نعمة الإرسال والهداية بسلوك صراطي على قدم المحبة أزدكم عرفاني ومحبتي (وَلا تَكْفُرُونِ) بالفترة والاحتجاب بنعمة الدين عن المنعم ، فإنه كفران بل كفر.

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ إِنَّ اللهَ مَعَ الصَّابِرِينَ (153))
(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) الإيمان العيانيّ (اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ) معي عند سطوات تجلّيات عظمتي وكبريائي (وَالصَّلاةِ) أي : الشهود الحقيقي بي (إِنَّ اللهَ مَعَ الصَّابِرِينَ) المطيقين لتجليات أنواره.
[154] (وَلا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللهِ أَمْواتٌ بَلْ أَحْياءٌ وَلكِنْ لا تَشْعُرُونَ (154))
(وَلا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللهِ) أي : يجعل فانيا مقتولة نفسه في سلوك سبيل التوحيد ميتا عن هواه ، كما قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «موتوا قبل أن تموتوا». هم (أَمْواتٌ) أي : عجزة مساكين (بَلْ) هم (أَحْياءٌ) عند ربهم بالحياة الحقيقية ، وحياة الله الدائمة السرمدية ، شهداء الله بالحضور الذاتيّ ، قادرون به (وَلكِنْ لا تَشْعُرُونَ) لعمى بصيرتكم وحرمانكم عن النور الذي تبصر به القلوب أعيان عالم القدّوس وحقائق الأرواح.

(وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَراتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ (155) الَّذِينَ إِذا أَصابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ (156) أُولئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَواتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ (157))
(وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ) أي : خوفي الموجب لانكسار النفس وانهزامها (وَالْجُوعِ) الموجب لنهك البدن ، وضعف قواه ، ورفع حجاب الهوى ، وسدّ طريق الشيطان إلى القلب (وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوالِ) التي هي موادّ الشهوات المقوّية للنفس الزائدة في طغيانها (وَالْأَنْفُسِ) المستولية على القلب بصفاتها ، والمستغنية بذاتها ، ليزيد بنقصها القلب ويقوى ، أو أنفس الأقرباء والأصدقاء الذين تأوون إليهم وتستظهرون بهم لتنقطعوا إليّ وتبتلوا (وَالثَّمَراتِ) أي : الملاذ والمتمتعات النفسانية لتلتذوا بالمكاشفات والمعارف القلبية ، والمشاهدات الروحية عند صفاء بواطنكم بالانقطاع منها وخلوص بصائر قلوبكم بنار الرياضة والبلاء والعزلة من غشّ صفات نفوسكم.
(وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ) يعني : الصابرين عن مألوفاتهم بلذّة محبتي وقوّة إرادتي (الَّذِينَ إِذا أَصابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ) من تصرّفاتي فيهم دائما شاهدوا آثار قدرتي ، بل أنوار تجليات صفتي و (قالُوا إِنَّا لِلَّهِ) أي : سلموا وأيقنوا أنهم ملكي ، أتصرّف فيه (وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ) أي : تفانوا فيّ ، وشاهدوا تهلكهم فيّ بي (أُولئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَواتٌ مِنْ رَبِّهِمْ) بالوجود الموهوب لهم بعد الفناء الموصوف بصفاتي المنوّر بأنواري (وَرَحْمَةٌ) ونور وهداية يهدون بها الخلق إليّ (وَأُولئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ) بهداي كما ورد في الدعاء : «واجعلنا هادين مهديين غير ضالين ولا مضلين».

(إِنَّ الصَّفا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعائِرِ اللهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلا جُناحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِما وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْراً فَإِنَّ اللهَ شاكِرٌ عَلِيمٌ (158))
(إِنَّ الصَّفا وَالْمَرْوَةَ) أي : إنّ صفاء وجود القلب ومروة وجود النفس (مِنْ شَعائِرِ اللهِ) من أعلام دينه ومناسكه القلبية كاليقين ، والرضا ، والإخلاص ، والتوكل ، والقالبية ، كالصلاة والصيام وسائر العبادات البدنية (فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ) أي : بلغ مقام الوحدة الذاتية ودخل الحضرة الإلهية بالفناء الذاتيّ الكليّ (أَوِ اعْتَمَرَ) نار الحضرة بتوحيد الصفات والفناء في أنوار تجليات الجمال والجلال (فَلا جُناحَ عَلَيْهِ) حينئذ في (أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِما) أي : يرجع إلى مقامهما ، ويتردّد بينهما ، لا بوجودهما التكويني ، فإنه جناح وذنب ، بل بالوجود الموهوب بعد الفناء عند التمكين ولهذا نفى الحرج ، فإنّ في هذا الوجود سعة بخلاف الأوّل (وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْراً) أي : ومن تبرّع خيرا من باب التعاليم وشفقة الخلق والنصيحة ومحبة أهل الخير والصلاح بوجود القلب ، ومن باب الأخلاق ، وطرق البر والتقوى ، ومعاونة الضعفاء والمساكين ، وتحصيل الرفق لهم ولعياله بوجود النفس بعد كمال السلوك والبقاء بعد الفناء (فَإِنَّ اللهَ شاكِرٌ) يشكر عمله بثواب المزيد (عَلِيمٌ) بأنه من باب التصرّف في الأشياء بالله لا من باب التكوين والابتلاء والفترة.

(إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ ما أَنْزَلْنا مِنَ الْبَيِّناتِ وَالْهُدى مِنْ بَعْدِ ما بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتابِ أُولئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللاَّعِنُونَ (159) إِلاَّ الَّذِينَ تابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا فَأُولئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (160) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَماتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ أُولئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللهِ وَالْمَلائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (161))
(إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ ما أَنْزَلْنا مِنَ الْبَيِّناتِ وَالْهُدى) أي : يكتمون ما أفضنا عليهم من بينات أنوار المعارف وعلوم تجليات الأفعال والصفات ، وهدى الأحوال والمقامات أو الهداية إلى التوحيد الذاتيّ بطريق علم اليقين ، فإنّ العيانيّ لا ينكتم بالتلوينات النفسية أو القلبية الحاجبة للمكاشفات القلبية والمسامرات السريّة والمشاهدات الروحية (مِنْ بَعْدِ ما بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ) في كتاب عقولهم المنوّرة بنور المتابعة المدركة لآثار أنوار القلوب والأرواح ببركة الصحبة (أُولئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللهُ) يردّهم ويطردهم (وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ) من الملأ الأعلى بخذلانهم وترك إمدادهم من عالم الأبد والنور ، ومن المستعدّين المشتاقين الذين كانوا قد استأنسوا بنور قلوبهم واستفاضوا منهم النور بقوّة صدقهم ، واستراحوا إلى صحبتهم وملازمتهم يتبرّكون بهم وبأنفاسهم عند استشراق لمعان أحوالهم بالهجران والانقطاع عن صحبتهم والصدّ والإعراض عنهم لفقدانهم ذلك واستشعارهم بتكدّر صفائهم (إِلَّا الَّذِينَ تابُوا) أي : رجعوا عن ذنوب أحوالهم وعلموا أن ذلك كان ابتلاء من الله (وَأَصْلَحُوا) أحوالهم بالإنابة والرياضة (وَبَيَّنُوا) أي : كشفوا وأظهروا بصدق المعاملة مع الله والإخلاص ما احتجب عنهم (فَأُولئِكَ) أتقبل توبتهم وألقي التوبة عليهم (وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ* إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا) حجبوا عن الدين أو الحق (وَماتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ) أي : بقوا على احتجابهم حتى زال استعدادهم وانطفأ نور فطرتهم بدين الحجاب ، وانقطعوا عن الأسباب التي يمكن بها رفع حجاب الموت (أُولئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللهِ وَالْمَلائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ) أي : استحقوا البعد والحرمان والطرد الكليّ عن الحق وعن عالم الملكوت وعن الفطرة الإنسانية المعبر عنه بالطمس.

(خالِدِينَ فِيها لا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذابُ وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ (162) وَإِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ الرَّحْمنُ الرَّحِيمُ (163) إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِما يَنْفَعُ النَّاسَ وَما أَنْزَلَ اللهُ مِنَ السَّماءِ مِنْ ماءٍ فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها وَبَثَّ فِيها مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّياحِ وَالسَّحابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (164))
(خالِدِينَ فِيها) لطموس استعدادهم وانطفاء نور فطرتهم (لا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذابُ) لرسوخ هيئاتهم المعذّبة في جواهر نفوسهم (وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ) للزوم تلك الهيئات المظلمة إياهم (وَإِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ) ومعبودكم الذي خصصتموه بالعبادة أيها الموحدون معبود واحد بالذات ، واحد مطلق لا شيء في الوجود غيره ، ولا موجود سواه فيعبد ، فكيف يمكنكم الشرك به وغيره العدم البحث فلا شرك إلا للجهل به. (الرَّحْمنُ) الشامل الرحمة لكلّ موجود (الرَّحِيمُ) الذي يخصّ رحمة هدايته بالمؤمنين الموحدين وهي أوّل آية نزلت في التوحيد بحسب الرتبة ، أي : أقدم توحيد من جهة الحق لا من جهتنا. فإنّ أول التوحيد من طرفنا توحيد الأفعال وهذا هو توحيد الذات ولما بعد هذا التوحيد عن مبالغ أفهام الناس تنزل إلى مقام توحيد الأفعال ليستدلّ به عليه فقال :
(إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) إلى آخره ، أي : أنّ في إيجاد سموات والأرواح والقلوب والعقول وأرض النفوس (وَاخْتِلافِ) النور والظلمة بينهما وفلك البدن التي تجري في بحر الجسم المطلق (بِما يَنْفَعُ النَّاسَ) في كسب كمالاتهم (وَما أَنْزَلَ اللهُ مِنَ السَّماءِ) أي : الروح من ماء العلم (فَأَحْيا بِهِ) أرض النفس بعد موتها بالجهل (وَبَثَّ فِيها مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ) القوى الحيوانية الحية بحياة القلب (وَتَصْرِيفِ) عصوف زيادة الأفعال الحقانية ، وسحاب تجلي الصفات الربانية المسخر المهيأ بين سماء الروح وأرض النفس (لَآياتٍ) لدلائل (لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ) بالعقل المنوّر بنور الشرع ، المجرّد عن شوب الوهم.

(وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللهِ أَنْداداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ الْعَذابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً وَأَنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعَذابِ (165) إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا الْعَذابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبابُ (166) وَقالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا لَوْ أَنَّ لَنا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَما تَبَرَّؤُا مِنَّا كَذلِكَ يُرِيهِمُ اللهُ أَعْمالَهُمْ حَسَراتٍ عَلَيْهِمْ وَما هُمْ بِخارِجِينَ مِنَ النَّارِ (167))
(وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللهِ أَنْداداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللهِ) أي : من يعبد من دون الله أشياء إمّا أناسيّ من جنسهم كالأزواج ، والأولاد ، والآباء ، والأجداد ، والإخوان ، والأحباب ، والرؤساء ، والملوك ، وغيرهم. وإمّا غير أناسيّ كالحيوانات ، والجمادات ، وسائر أموالهم ، بالإقبال عليهم والتوجه نحوهم ، ومراعاتهم ، وحفظهم ، والاهتمام بهم وبحالهم ، والتفكّر في بابهم ، يحبونهم كحبهم الله ، أي : كما يجب أن يحب الله ، فتكون تلك الأشياء عندهم مساوية في المحبة مع الله فتكون أندادا أو شركاء لله بالنسبة إليهم ، أو تكون هي محبوباتهم ومعبوداتهم لا غير ، فهي آلهتهم كما أن الله إله الخلق فهم جعلوا لأنفسهم آلهة أندادا لإله سائر الخلق ، إله العالمين.
(وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ) من غيره لأنهم لا يحبون إلا الله ، لا يختلط حبهم له بحب غيره ولا يتغير ، ويحبون الأشياء بمحبة الله ولله ، وبقدر ما يجدون فيها من الجهة الإلهية كما قال بعضهم : «الحق حبيبنا ، والخلق حبيبنا وإذا اختلفا فالحق أحبّ إلينا» أي : إذا لم تبق جهة الإلهية فيهم بمخالفتهم إياه لم تبق محبتنا لهم ، أو أشدّ حبا من محبتهم لآلهتهم لأنهم يحبون الأشياء بأنفسهم لأنفسهم ، فلا جرم تتغير محبتهم بتغيير إعراض النفوس أنفسهم عند خوف الهلاك ومضرّة النفس عليهم والمؤمنون يحبون الله بأرواحهم وقلوبهم ، بل بالله لله ، لا تتغير محبتهم لكونها لا لغرض ، ويبذلون أرواحهم وأنفسهم لوجهه ورضاه ، ويتركون جميع مراداتهم لمراده ويحبون أفعاله وإن كانت بخلاف هواهم ,

(وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا) أي : أشركوا بمحبة الإنذار في وقت رؤيتهم عذاب الاحتجاب بآلهتهم (أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ) أي : القدرة كلها لله ليس لآلهتهم شيء منها ، وشدّة عذاب الله بقرنهم بآلهتهم في نار الحرمان بالسلاسل النارية المستفاد من محبتهم إياها ، لكان ما لا يدخل تحت الوصف ولهذا المعنى حذف جواب لو (إِذْ تَبَرَّأَ) بدل من : إذ يرون العذاب ، أي : وقت رؤيتهم العذاب هو وقت تبرّئ المتبوعين من التابعين مع لزوم كلّ منهما الآخر بمقتضى المحبة التي كانت بينهم لتعذب كلّ منهم بالآخر وتقيده واحتجابه به عن كمالاته ولذاته وانقطاع الأسباب والوصل الموجبة للفوائد والتمتعات التي كانت بينهم في الدنيا من القرابة ، والرحم ، والألفة ، والعهد ، وسائر المواصلات الدنيوية الجالبة للنفع واللذة ، فإنها تنقطع كلها بانقطاع لوازمها وموجباتها دون المواصلات الخيرية والمحبّات الإلهية المبنية على المناسبة الروحية والتعارف الأزليّ ، فإنها تبقى ببقاء الروح أبدا وتزيد في الآخرة بعد رفع الحجب البدنية لاقتضائها محبة الله المفيدة في الآخرة ، كما قال تعالى : «وجبت محبتي للمتحابين فيّ». والواو في (وَرَأَوُا الْعَذابَ) واو الحال ، أي : تبرّؤا عنهم في حال رؤيتهم العذاب وتقطع الوصل بينهم ، يعني : حال ظهور شرّ المقارنة وتبعتها ، ونفاد خيرها وفائدتها ، كحال سفاح الكلاب مثلا (وَقالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا لَوْ أَنَّ لَنا كَرَّةً) أي : ليت لنا كرّة (كَذلِكَ يُرِيهِمُ اللهُ أَعْمالَهُمْ حَسَراتٍ عَلَيْهِمْ) أي : تنقلب محباتهم وما يبتنى عليها من الأعمال حسرات عليهم ، وكذا يكون حال القوى الروحانية المصادقة للقوى النفسانية التابعة لها ، المسخرّة إياها في تحصيل لذاتها.

(يا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلالاً طَيِّباً وَلا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (168))
(يا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ) أي : تناولوا من اللذّات والتمتعات التي في الجهة السفلية من عالم النفس والبدن على وجه يحلّ ويطيب ، أي : على قانون العدالة بإذن الشرع واستصواب العقل بقدر الاحتياج والضرورة ، ولا تخطوا حدّ الاعتدال الذي به تطيب وتنفع إلى حدود الإسراف ، فإنها خطوات الشيطان. ولهذا قال تعالى : (إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كانُوا إِخْوانَ الشَّياطِينِ) فإنه عدو لكم. بيّن العداوة يريد أن يهلككم ويبغضكم إلى ربكم بارتكاب الاسرافات المذمومة فإنه لا يحب المسرفين. واعلم أن العداوة في عالم النفس هي ظلّ الألفة في عالم القلب ، والاعتدال ظلها في عالم البدن ، والألفة ظلّ المحبة في عالم الروح وهي ظلّ الوحدة الحقيقية. فالاعتدال هو الظلّ الرابع للوحدة والشيطان يفرّ من ظلّ الحق ولا يطيقه فيخطوا أبدا في مجال تلك الظلال إلى جوانب الإسرافات وحيث يعجز فإلى جوانب التفريطات كما في المحبة والألفة ، ولهذا قال أمير المؤمنين عليّ عليه‌السلام : «لا ترى الجاهل إلا مفرطا أو مفرّطا» ، فإن الجاهل سخرة الشيطان.

(إِنَّما يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَالْفَحْشاءِ وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللهِ ما لا تَعْلَمُونَ (169) وَإِذا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا ما أَنْزَلَ اللهُ قالُوا بَلْ نَتَّبِعُ ما أَلْفَيْنا عَلَيْهِ آباءَنا أَوَلَوْ كانَ آباؤُهُمْ لا يَعْقِلُونَ شَيْئاً وَلا يَهْتَدُونَ (170))
(إِنَّما يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ) الإضرار والأذى الذي هو إفراط القوة الغضبية (وَالْفَحْشاءِ) أي : القبائح التي هي إفراط القوّة الشهوانية (وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللهِ ما لا تَعْلَمُونَ) الذي هو إفراط القوّة النطقية لشوب العقل بالوهم الذي هو الشيطان المسخر له (وَإِذا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا ما أَنْزَلَ اللهُ) من مراعاة حدّ الاعتدال والعدالة في كلّ شيء على الوجه المأمور به في الشرع (قالُوا بَلْ نَتَّبِعُ ما وَجَدْنا عَلَيْهِ آباءَنا) من الإسرافات المذمومة في الجاهلية تقليدا لهم (أَ) تتبعونهم (وَلَوْ كانَ آباؤُهُمْ لا يَعْقِلُونَ شَيْئاً) من الدين والعلم (وَلا يَهْتَدُونَ) إلى الصواب في العمل لجهلهم.

(وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِما لا يَسْمَعُ إِلاَّ دُعاءً وَنِداءً صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَعْقِلُونَ (171) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ (172))
(وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا) أي : مثل داعي الكفار المردودين (كَمَثَلِ) الناعق بالبهائم فإنها لا تسمع إلا صوتا ولا تفهم ما معناه فكذا حالهم (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) إن كنتم موحدين تخصون العبادة بالله فلا تتناولوا إلا من طيبات ما رزقناكم ، أي : ما ينبغي في العدالة أن يستعمل من المرزوقات (وَاشْكُرُوا لِلَّهِ) باستعمالها فيما يجب أن تستعمل على الوجه الذي ينبغي أن تستعمل بالقدر الذي ينبغي ، فإنّ التوحيد يقتضي مراعاة الاعتدال والعدالة في كل شيء اقتضاء الذات ظلها ولازمها عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن الله تعالى : «إني والجنّ والإنس في نبأ عظيم ، أخلق ويعبد غيري ، وأرزق ويشكر غيري».

(إِنَّما حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَما أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ باغٍ وَلا عادٍ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (173) إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ ما أَنْزَلَ اللهُ مِنَ الْكِتابِ وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً أُولئِكَ ما يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلاَّ النَّارَ وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَلا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (174) أُولئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدى وَالْعَذابَ بِالْمَغْفِرَةِ فَما أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ (175) ذلِكَ بِأَنَّ اللهَ نَزَّلَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِي الْكِتابِ لَفِي شِقاقٍ بَعِيدٍ (176))

(إِنَّما حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ) لجمود الدم فيها ، وبعدها عن الاعتدال بانحراف المزاج (وَالدَّمَ) لاختلاطه بالفضلات النجسة البعيدة عن قبول الحياة والعدالة والنورية وعدم صلاحيته لذلك بعد لقصور النضج (وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ) لغلبة السبعية والشره ومباشرة القاذورات والدياثة على طبعه فيولد في أكله مثل ذلك (وَما أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللهِ) أي : رفع الصوت بذبحه لغير الله يعني ما قصد بذبحه وأكله الشرك لمنافاته التوحيد سفيرا عن الشرك. ويفهم منه ما يقوي آكله به على الكلام ورفع الصوت لغير الله أي : كل ما يؤكل لا على التوحيد فهو محرّم على آكله (فَمَنِ اضْطُرَّ) أي : من الجماعة (غَيْرَ باغٍ) على مضطرّ آخر باستئثاره (وَلا عادٍ) سدّ الرمق (فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ ما يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ) أي : ملء بطونهم إلا ما هو وقود نار الحرمان وسبب اشتعال نيران الطبيعة الحاجبة عن نور الحق المعذبة بهيئات السوء المظلمة الموقعة صاحبها في جحيم الهيولى الجسمانية (وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللهُ وَلا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ) عبارة عن شدّة غضبه عليهم وبعدهم عنه.

(لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلائِكَةِ وَالْكِتابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمالَ عَلى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقابِ وَأَقامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذا عاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْساءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ (177))
(لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ) مشرق عالم الأرواح ومغرب عالم الأجساد ، فإنه تقيد واحتجاب (وَلكِنَّ الْبِرَّ) برّ الموحدين الذين آمنوا بالله والمعاد في مقام الجمع ، إذ التوحيد في مقام الجمع يلزمه البقاء الأبديّ الذي هو المعاد الحقيقي. وشاهدوا الجمع في تفاصيل الكثرة ولم يحتجبوا بالجمع عن التفصيل الذي هو باطن عالم الملائكة وظاهر عالم النبيين. (وَالْكِتابِ) الذي جمع بين الظاهر بالأحكام والمعارف ، وأفاد علم الاستقامة ثم استقاموا بعد تمام التوحيد جمعا وتفصيلا بالأعمال المذكورة ، فإن الاستقامة عبارة عن وقوف جميع القوى على حدودها بالأمر الإلهيّ لتنوّرها بنور الروح عند تحقق صاحبها بالله في مقام البقاء بعد الفناء وذلك مقام العدالة ، فتكون هي في ظلّ الحق منخرطة في سلك الوحدة بكليتها. (عَلى حُبِّهِ) أي : في حال الاحتياج إليه والشحّ به ، كما قال ابن مسعود : أن تؤتيه وأنت صحيح شحيح ، تأمل العيش ، وتخشى الفقر ، ولا تمهل حتى إذا بلغت الحلقوم ، قلت لفلان : كذا ، ولفلان : كذا. قال الله تعالى : (وَيُؤْثِرُونَ عَلى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كانَ بِهِمْ خَصاصَةٌ) أو على حب الله لئلا يشغل قلبه عنه ولأنه تعالى يرضى بإيتائه أو على حبّ الإيتاء ، يعني : بطيب النفس ، فإن الكريم هو الفرح وطيب النفس بالإعطاء. ومن قوله : (وَآتَى الْمالَ) إلى قوله : (وَآتَى الزَّكاةَ) من باب العفة التي هي كمال القوة الشهوانية ووقوفها على حدّها فيما يتعلق بها ، وقوله : (وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذا عاهَدُوا) من باب العدالة المستلزمة للحكمة التي هي كمال القوّة النطقية فإنها ما لم تعلم تبعة الغدر والخيانة وفائدة الفضيلة المقابلة لهما ، لم تف بالعهد. وقوله : (وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْساءِ) أي : الشدّة والفقر (وَالضَّرَّاءِ) أي : المرض والزمانة (وَحِينَ الْبَأْسِ) أي : الحرب من باب الشجاعة التي هي كمال القوّة الغضبية (أُولئِكَ) الموصوفون بهذه الفضائل كلها ، الثابتون في مقام الاستقامة (الَّذِينَ صَدَقُوا) الله في مواطن التجريد بأفعالهم التي هي البرّ كله (وَأُولئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ) عن محبة غير الله حتى النفس ، المجرّدون عن غواشي النشأة والطبيعة.
ويمكن أن يؤوّل المال بالعلم الذي هو مال القلب ، لأنه يقوى به ويستغنى ، أي : أعطي العلم مع كونه محبوبا ذوي قربى القوى الروحانية لقربها منه ، ويتامى القوى النفسانية لانقطاعها عن نور الروح الذي هو الأب الحقيقيّ ومساكين القوى الطبيعية لكونها دائمة السكون لثواب البدن وعلمها علم الأخلاق والسياسات الفاضلة. ثم إذا ارتوى من العلم ، علم المعارف والأخلاق والآداب والمعايش جملة وتفصيلا وفرغ من نفسه ، أفاض على أبناء السبيل ، أي : السالكين والسائلين ، أي : طلبة العلم وفي فكّ رقاب عبدة الدنيا والشهوات من أسرهم بالوعظ والخطابة وأقام صلاة الحضور ، أي : أدامها بالمشاهدة ، وآتى ما يزكي نفسه عن النظر إلى الغير ، والتفاتات الخواطر بالنفي ، ومحو الصفات ، والموفون بعهد الأزل بملازمة التوحيد وإفناء الذات والآنية ، والصابرين في بأساء الافتقار إلى الله دائما ، وضرّاء كسر النفس وقمع الهوى ، وحين بأس محاربة الشيطان ، أولئك الذين صدقوا الله في الوفاء بعهده وعزيمة السلوك وعقده ، وأولئك هم المتقون عن الشرك ، المنزّهون عن البقية.

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصاصُ فِي الْقَتْلى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنْثى بِالْأُنْثى فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّباعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَداءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسانٍ ذلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ فَمَنِ اعْتَدى بَعْدَ ذلِكَ فَلَهُ عَذابٌ أَلِيمٌ (178) وَلَكُمْ فِي الْقِصاصِ حَياةٌ يا أُولِي الْأَلْبابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (179) كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْراً الْوَصِيَّةُ لِلْوالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ (180) فَمَنْ بَدَّلَهُ بَعْدَ ما سَمِعَهُ فَإِنَّما إِثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ إِنَّ اللهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (181) فَمَنْ خافَ مِنْ مُوصٍ جَنَفاً أَوْ إِثْماً فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (182) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيامُ كَما كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (183) أَيَّاماً مَعْدُوداتٍ فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ عَلى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعامُ مِسْكِينٍ فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْراً فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (184))

القصاص قانون من قوانين العدالة ، فرض لإزالة عدوان القوّة السبعية ، وهو ظلّ من ظلال عدله تعالى فإنه إذا تصرّف في عبده بإفنائه فيه عوّضه عن حرّ روحه روحا موهوما خيرا منه ، وعن عبد قلبه قلبا موهوبا ، وعن أنثى نفسه نفسا موهوبة كاملة. (وَلَكُمْ) في مقاصّة الله إياكم بما ذكر (حَياةٌ) عظيمة ، أي : حياة لا يوصف كنهها (يا أُولِي الْأَلْبابِ) أي : العقول الخالصة عن قشر الأوهام وغواشي العينيات والإجرام. فكذا في هذا القصاص ـ لكي تتقوا تركه وتحافظوا عليه ـ الوصية والمحافظة عليها قانون آخر فرض لإزالة نقصان القوّة الملكية ، أي : القوّة النطقية وقصورها عما يقتضي الحكمة من التصرّف في الأموال ، والسلطنة على القوّتين الأخريين بنور الحق وحكم الشرع ، ومنعها عن عدوانها أيضا بتبديل الوصية الذي هو نوع من الجريمة والخيانة ، وتحريضها على التحقيق والتدقيق في باب الحكمة التي هي كمالها بالإصلاح بين الموصى لهم على مقتضى الحكمة ، إذا توقع وعلم من الموصي إضرارا بالسهو أو العمد ـ الصيام قانون آخر مما فرض لإزالة عدوان القوّة البهيمية وتسلطها ـ واعلم أنّ قصاص أهل الحقيقة ما ذكر ، ووصيتهم هي بالمحافظة على عهد الأزل بترك ما سوى الحق ، كما قال تعالى : (وَوَصَّى بِها إِبْراهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ) . وصيامهم هو الإمساك عن كلّ قول وفعل وحركة وسكون ليس بالحق للحق.

(شَهْرُ رَمَضانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدىً لِلنَّاسِ وَبَيِّناتٍ مِنَ الْهُدى وَالْفُرْقانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كانَ مَرِيضاً أَوْ عَلى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللهَ عَلى ما هَداكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (185))
(شَهْرُ رَمَضانَ) أي : احتراق النفس بنور الحق (الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ) في ذلك الوقت (الْقُرْآنُ) أي : العلم الجامع الإجمالي ، المسمّى بالعقل القرآنيّ الموصل إلى مقام الجمع ـ هداية للناس إلى الوحدة باعتبار الجمع (وَبَيِّناتٍ مِنَ الْهُدى) ودلائل متصلة من الجمع والفرق ، أي : العلم التفصيلي المسمّى بالعقل الفرقاني ـ فمن حضر منكم في ذلك الوقت ، أي : بلغ مقام شهود الذات (فَلْيَصُمْهُ) أي : فليمسك عن قول وفعل وحركة ليس بالحق فيه (وَمَنْ كانَ مَرِيضاً) أي : مبتلى بأمراض قلبه من الحجب النفسانية المانعة من ذلك الشهود (أَوْ عَلى سَفَرٍ) أي : في سلوك بعد ولم يصل إلى الشهود الذاتيّ ، فعليه مراتب أخر يقطعها حتى يصل إلى ذلك المقام (يُرِيدُ اللهُ بِكُمُ الْيُسْرَ) بالوصول إلى مقام التوحيد والامتداد بقدرة الله (وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ) أي : تكلف الأفعال بالنفس الضعيفة العاجزة (وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ) ولتتموا تلك المراتب والأحوال والمقامات الموصلة. ولتعظموا الله وتعرفوا عظمته وكبرياءه على هدايته إياكم إلى مقام الجمع (وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) بالاستقامة أمركم بذلك.

(وَإِذا سَأَلَكَ عِبادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذا دَعانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ (186))
(وَإِذا سَأَلَكَ عِبادِي) السالكون الطالبون المتوجهون إليّ ، عن معرفتي (فَإِنِّي قَرِيبٌ) ظاهر (أُجِيبُ دَعْوَةَ) من يدعوني بلسان الحال والاستعداد بإعطائه ما اقتضى حاله واستعداده (فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي) بتصفية الاستعداد بالزهد والعبادة ، فإني أدعوهم إلى نفسي وأعلمهم كيفية السلوك إليّ ، وليشاهدوني عند التصفية ، فإني أتجلّى عليهم في مرائي قلوبهم لكي يرشدوا بالاستقامة ، أي : لكي يستقيموا ويصلحوا.

(أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيامِ الرَّفَثُ إِلى نِسائِكُمْ هُنَّ لِباسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِباسٌ لَهُنَّ عَلِمَ اللهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتانُونَ أَنْفُسَكُمْ فَتابَ عَلَيْكُمْ وَعَفا عَنْكُمْ فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا ما كَتَبَ اللهُ لَكُمْ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيامَ إِلَى اللَّيْلِ وَلا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عاكِفُونَ فِي الْمَساجِدِ تِلْكَ حُدُودُ اللهِ فَلا تَقْرَبُوها كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ آياتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (187))
(أُحِلَّ لَكُمْ) أي : أبيح لكم (لَيْلَةَ الصِّيامِ) أي : في وقت الغفلة الذي يتخلل ذلك الإمساك المذكور في زمان حضوركم (الرَّفَثُ إِلى نِسائِكُمْ) التنزّل إلى مقارفة نفوسكم بحظوظها إذ لا مصابرة لكم عنها لكونها تلابسكم وكونكم تلابسونها بالتعلق الضروري (عَلِمَ اللهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتانُونَ أَنْفُسَكُمْ) باستراق الحظوظ في أزمنة تلك السلوك والرياضة والحضور (فَتابَ عَلَيْكُمْ وَعَفا عَنْكُمْ فَالْآنَ) أي : في وقت الاستقامة والتمكين حال البقاء بعد الفناء (بَاشِرُوهُنَ) في أوقات الغفلات (وَابْتَغُوا ما كَتَبَ اللهُ لَكُمْ) من التقوى والتمكن بتلك الحظوظ على توفير حقوق الاستقامة والقيام بما أمر الله به من العبودية والدعوة إليه (وَكُلُوا وَاشْرَبُوا) أي : كونوا مع رفقها (حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ) حتى تظهر عليكم بوادي الحضور ولوامعه وتغلب آثاره وأنواره على سواد الغفلة وظلمتها ، ثم كونوا على الإمساك المذكور بالحضور مع الحق حتى يأتي زمان الغفلة ، لو لا ذلك لما أمكنه القيام بمصالح معاشه ومهماته. ولا تقاربوهن في حال كونكم معتكفين مقيمين حاضرين في مساجد قلوبكم وإلا لتشوّش وقتكم بظهورها.

(وَلا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ وَتُدْلُوا بِها إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقاً مِنْ أَمْوالِ النَّاسِ بِالْإِثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (188))
(وَلا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ) معارفكم ومعلوماتكم (بَيْنَكُمْ) بباطل شهوات النفس ولذاتها بتحصيل مآربها واكتساب مقاصدها الحسيّة والخيالية باستعمالها (وَتُدْلُوا بِها) وترسلوا إلى حكّام النفوس الأمّارة بالسوء (لِتَأْكُلُوا فَرِيقاً مِنْ أَمْوالِ) القوى الروحانية (بِالْإِثْمِ) أي : بالظلم لصرفكم إياها في ملاذ القوى النفسانية (وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ) أنّ ذلك إثم ووضع للشيء في غير موضعه.

(يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَواقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِها وَلكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقى وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوابِها وَاتَّقُوا اللهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (189) وَقاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ الَّذِينَ يُقاتِلُونَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (190))
(يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ) أي : عن الطوالع القلبية عند إشراق نور الروح عليها (قُلْ هِيَ مَواقِيتُ لِلنَّاسِ) أي : أوقات وجوب المعاملة في سبيل الله وعزيمة السلوك ، وطواف بيت القلب ، والوقوف في مقام المعرفة (وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا) بيوت قلوبكم (مِنْ ظُهُورِها) من طرق حواسكم ومعلوماتكم المأخوذة من المشاعر البدنية فإنّ ظهر القلب هو الجهة التي تلي البدن (وَلكِنَّ الْبِرَّ) برّ (مَنِ اتَّقى) شواغل الحواس وهواجس الخيال ووساوس النفس (وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوابِها) الباطنة التي تلي الروح والحق ، فإنّ باب القلب هو الطريق الذي انفتح منه إلى الحق (وَاتَّقُوا اللهَ) في الاشتغال بما يشغلكم عنه (لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ* وَقاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ الَّذِينَ يُقاتِلُونَكُمْ) من الشيطان وقوى النفس الأمّارة (وَلا تَعْتَدُوا) في قتالها بأن تميتوها عن قيامها بحقوقها والوقوف على حدودها حتى تقع في التفريط والقصور والفتور (إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ) لكونهم خارجين عن ظلّ المحبة والوحدة الذي هو العدالة.

(وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأَخْرِجُوهُمْ مِنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ وَلا تُقاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ حَتَّى يُقاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِنْ قاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ كَذلِكَ جَزاءُ الْكافِرِينَ (191) فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (192) وَقاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَلا عُدْوانَ إِلاَّ عَلَى الظَّالِمِينَ (193))
(وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ) وجدتموهم أزيلوا حياتهم وامنعوهم عن أفعالها بقمع هواها الذي هو روحها حيث كانوا (وَأَخْرِجُوهُمْ) من مكة الصدر عند استيلائها عليها كما أخرجوكم عنها باستنزالكم إلى بقعة النفس وإخراجكم عن مقرّ القلب. وفتنتهم التي هي عبادة هواها وأصنام لذّاتها أشد من قمع هواها وإماتتها الكلية ، أو محنتكم وابتلاؤكم بها عند استيلائها أشدّ عليكم من القتل الذي هو طمس غرائزكم ومحو استعدادكم بالكلية لزيادة الألم هناك (وَلا تُقاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ) الذي هو مقام القلب ، أي : عند الحضور القلبيّ إذا وافقوكم في توجهكم فإنها أعوانكم على السلوك حينئذ (حَتَّى يُقاتِلُوكُمْ فِيهِ) وينازعوكم في مطالبهم ويجرّوكم عن جناب القلب ودين الحق إلى مقام النفس ودينهم الذي هو عبادة العجل (وَقاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ) من تنازعهم ودواعيهم وتعبدهم (وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ) بتوجه جميعها إلى جناب القدس ومشايعتها للسرّ في التوجه إلى الحق ، ليس للشيطان والهوى فيه نصيب (فَإِنِ انْتَهَوْا فَلا عُدْوانَ) عليهم إلا العادين المجاوزين عن حدودهم.

(الشَّهْرُ الْحَرامُ بِالشَّهْرِ الْحَرامِ وَالْحُرُماتُ قِصاصٌ فَمَنِ اعْتَدى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدى عَلَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ (194))
(الشَّهْرُ الْحَرامُ بِالشَّهْرِ الْحَرامِ) أي : وقت منعها إياكم عن مقصدكم ودينكم هو بعينه وقت منعكم إياها عن عقوقها حتى ترضى بالوقوف على حدودها ، وشهرها الحرام هو وقت قيامها بحقوقها ، وشهركم الحرام هو وقت الحضور والمراقبة.

(وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللهِ وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (195))
(وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللهِ) ما معكم من العلوم بالعمل بها ولا تدّخروها لوقت آخر عسى لا تدركونه فلا شيء أضرّ من التسويف (وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى) تهلكة التفريط وتأخير العمل بالعلم وإنفاقه في مصالح النفس فإنه موجب للحرمان (وَأَحْسِنُوا) أي : وكونوا في عملكم مشاهدين (إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ) المشاهدين في أعمالهم ربّهم ، مخلصين له فيها.

(وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ وَلا تَحْلِقُوا رُؤُسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ بِهِ أَذىً مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ فَإِذا أَمِنْتُمْ فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كامِلَةٌ ذلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَاتَّقُوا اللهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقابِ (196))
(وَأَتِمُّوا) حجّ توحيد الذات وعمرة توحيد الصفات بإتمام جميع المقامات والأحوال ، بالسلوك إلى الله وفي الله ، (فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ) بمنع كفار النفس الأمّارة إياكم عنهما (فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ) فجاهدوا في الله بسوق هدى النفس وذبحها بفناء كعبة القلب أو عرصة ما تمنى منها القلب من المقام. وما استيسر إشارة إلى أنّ النفوس مختلفة في استعداداتها وصفاتها ، فبعضها موصوف بصفات حيوان ضعيف ، وبعضها بصفات حيوان قوي. ولكلّ ما تيسر أو بعضها بصفات حيوان ذلول سهل الانقياد ، وبعضها بصفات حيوان صعب عسر الانقياد ، وربما كان لبعضها صفة لم يتيسر قمعها وإن تيسر قمع سائر صفاتها. ومثل هذا الحاج محصر أبدا.

(وَلا تَحْلِقُوا رُؤُسَكُمْ) ولا تزيلوا آثار الطبيعة وتختاروا طيب القلب وفراغ الخاطر من الهموم والتعلقات كلها ، والعادات والعبادات وتقتصروا على صفاء الوقت كما هو مذهب القلندرية (حَتَّى يَبْلُغَ) هدي النفس (مَحِلَّهُ) أي : مكانه ، وهو مذبحه أو منحره الذي يقتضي أن تكون أفعالها التي كانت محرّمة عند حياتها بهواها تصير حلا عند قتلها لكونها بالقلب فتأمنوا من بقاياها ، وإلّا لتشوّش وقتكم وتكدّر صفاؤكم بظهورها ونشاطها بالدعوى عند بسط القلب كما هو حال أكثر القلندرية اليوم.

(فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً) أي : ضعيف الاستعداد مملوء القلب بعوارض لازمة في جبلتها أو مكتسبة من العادات (أَوْ بِهِ أَذىً مِنْ رَأْسِهِ) أو ممنوعا مبتلى بهموم وتعلّقات ورذائل وهيئات ، ولم يتيسر له السلوك والمجاهدة على ما ينبغي وأراد أن يقتصر على طيب القلب وصفاء الوقت ليبقى على الفطرة ولا ينتكس وينحط عن درجته وإن لم يترق. فعليه فدية من إمساك عن بعض لذاته وشواغله النفسانية. أو فعل برّ أو رياضة ومجاهدة تقمع بعض القوى المزاحمة ، فليحفظ وقته وليراع صفاءه بزهد ما أو عبادة أو مخالفة نفس (فَإِذا أَمِنْتُمْ) من العدوّ المحصر (فَمَنْ تَمَتَّعَ) بذوق تجلي الصفات متوسلا به إلى حج تجلي الذات (فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ) بحسب حاله (فَمَنْ لَمْ يَجِدْ) لضعف نفسه وخمودها وانقهارها (فَصِيامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ) فعليه الإمساك عن أفعال القوى التي هي الأصول القوية في وقت التجلي والاستغراق في الجمع والفناء في الوحدة فإنها لا بدّ من أن تحجب وتجرّ إلى حضيض النفس والصدر ، وهي العقل والوهم والمتخيلة (وَسَبْعَةٍ إِذا رَجَعْتُمْ) إلى مقام التفصيل والكثرة وهي الحواس الخمس الظاهرة والغضب والشهوة ليكون عند الاستقامة في الأشياء بالله (تِلْكَ عَشَرَةٌ كامِلَةٌ) فذلكة ، أي : تلك الإمساكات المذكورة عن أفعال هذه القوى والمشاعر جميع التفاصيل الكاملة الموجبة لأفاعيل قوى وجوده الموهوب بالحق عند حصول الكمال ، كما قال : «كنت سمعه الذي يسمع به ، وبصره الذي يبصر به» إلى آخر الحديث. (ذلِكَ) الحكم (لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرامِ) من المحبوبين الكاملين الحاضري مقام القلب في الوحدة ، فإنه لا هدى له ولا مجاهدة ولا رياضة في وصوله وسلوكه إلى الله ، بل هو للمحبين.

(الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُوماتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدالَ فِي الْحَجِّ وَما تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللهُ وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوى وَاتَّقُونِ يا أُولِي الْأَلْبابِ (197))
(الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُوماتٌ) أي : وقت الحج أزمنة معلومة ، وهو من وقت بلوغ الحلم إلى الأربعين ، كما قال تعالى في وصف البقرة : (لا فارِضٌ وَلا بِكْرٌ عَوانٌ بَيْنَ ذلِكَ) (1) ، (فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَ) على نفسه بالعزيمة والتزم (فَلا رَفَثَ) أي : فاحشة ظهور القوة الشهوانية (وَلا فُسُوقَ) أي لأسباب يعني خروج القوّة الغضبية عن طاعة القلب (وَلا جِدالَ) أي : تعدّي القوة النطقية بالشيطنة (فِي الْحَجِ) أي : في قصد بيت القلب (وَما تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ) من فضيلة من أفعال هذه القوى الثلاث بأمر الشرع والعقل دون رذائلها (يَعْلَمْهُ اللهُ) ويثبكم عليه (وَتَزَوَّدُوا) من فضائلها التي يلزمها الاجتناب عن رذائلها (فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوى) منها (وَاتَّقُونِ) في أعمالكم ونياتكم (يا أُولِي الْأَلْبابِ) فإن قضية اللبّ أي : العقل الخالص من شوب الوهم وقشر المادة اتقائي.

(لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلاً مِنْ رَبِّكُمْ فَإِذا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفاتٍ فَاذْكُرُوا اللهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرامِ وَاذْكُرُوهُ كَما هَداكُمْ وَإِنْ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّالِّينَ (198))
(لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلاً مِنْ رَبِّكُمْ) أي : لا حرج عليكم عند الرجوع إلى الكثرة في أن تطلبوا رفقا لأنفسكم وتمتعوها بحظوظها على مقتضى الشرع بإذن الحق ، فإنّ حظها حينئذ يقويها على موافقة القلب في مقاصده ولأنها غير طاغية لتنوّرها بنور الحق (فَإِذا أَفَضْتُمْ) أي : دفعتم أنفسكم من مقام المعرفة التامة الذي هو نهاية مناسك الحج وأمّها كما قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «الحجّ عرفة». (فَاذْكُرُوا اللهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرامِ) أي : شاهدوا جمال الله عند السرّ الروحيّ المسمّى بالخفيّ ، فإنّ الذكر في هذا المقام هو المشاهدة ، والمشعر هو محل الشعور بالجمال المحرّم من أن يصل إليه الغير (وَاذْكُرُوهُ كَما هَداكُمْ) إلى ذكره في المراتب فإنه تعالى هدى أولا إلى الذكر باللسان وهو ذكر النفس ثم إلى الذكر بالقلب وهو ذكر الأفعال الذي تصدر نعماء الله وآلاؤه منه. ثم ذكر السرّ وهو معاينة الأفعال ومكاشفة علوم تجليات الصفات. ثم ذكر الروح وهو مشاهدة أنوار تجليات الصفات مع ملاحظة نور الذات. ثم ذكر الخفيّ وهو مشاهدة جمال الذات مع بقاء الإثنينية. ثم ذكر الذات وهو الشهود الذاتي بارتفاع البقية (وَإِنْ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلِهِ) أي : من قبل الوصول إلى عرفات المعرفة والوقوف بها (لَمِنَ الضَّالِّينَ) عن هذه الأذكار.

(ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفاضَ النَّاسُ وَاسْتَغْفِرُوا اللهَ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (199))
(ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفاضَ النَّاسُ) ثم أفيضوا إلى ظواهر العبادات والطاعات وسائر وظائف الشرعيات والمعاملات من حيث ، أي : من مقام إفاضة سائر الناس فيها ، وكونوا كأحدهم. قيل لجنيد رحمة الله عليه : ما النهاية؟ قال : الرجوع إلى البداية. (وَاسْتَغْفِرُوا اللهَ) من ظهور النفس وتبرمها بالحال وطغيانها. قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إنه ليغان على قلبي ، وأني لأستغفر الله في اليوم سبعين مرة». وقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «اللهم ثبتني على دينك» ، فقيل له في ذلك فقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أو ما يؤمنني ، إنّ مثل القلب كمثل ريشة في فلاة ، تقلّبها الرياح كيف شاءت». ولما تورّمت قدماه فقالت له عائشة رضي الله عنها : أما غفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر؟ قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أفلا أكون عبدا شكورا». وقال أمير المؤمنين عليه‌السلام : «أعوذ بالله من الضلال بعد الهدى».

(فَإِذا قَضَيْتُمْ مَناسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللهَ كَذِكْرِكُمْ آباءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْراً فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ رَبَّنا آتِنا فِي الدُّنْيا وَما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ (200))
(فَإِذا قَضَيْتُمْ مَناسِكَكُمْ) وفرغتم من الحجّ (فَاذْكُرُوا اللهَ كَذِكْرِكُمْ آباءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْراً) أي : فلا تكونوا كأهل العادة مشغولين بذكر الأنساب والمفاخرات وسائر أحوال الدنيا ، فإنّ ذلك يكدّر وقتكم ويقسي قلوبكم بل كونوا مشتغلين بأنواع الذكر والمذاكرة مع الإخوان مثل ما كنتم تذكرون أحوال الأنساب وسائر أحوال الدنيا قبل السلوك أو كما يذكر الناس هذه الأحوال بالعادة أو أبلغ وأقوى وأكثر ذكرا منها ليبقى صفاؤكم ويهتدي بكم الناس (فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ رَبَّنا) أي : لا يطلب إلا متاع الدنيا ولا يشتغل إلا بذكرها ولا يعبد الله إلا لأجلها (وَما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ) فإنّ توجهه إلى الأخس يمنعه عن قبول الأشرف لعدم نهوض همّته إليه واكتساب الظلمة المنافية للنور.

(وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنا آتِنا فِي الدُّنْيا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنا عَذابَ النَّارِ (201))
(وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنا آتِنا) أي : يطلب خير كل من الدارين ويحترز عن الاحتجاب بالظلمة والتعذب بنيران الطبيعة والحرمان عن أنوار الرحمة (أُولئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِمَّا كَسَبُوا) من حظوظ الآخرة وأنوار دار القرار واللذات الباقية بالأعمال الصالحة بعد المحاسبة وحط بعض الحسنات بالسيئات والتعذيب بحسبها أو العفو.

(أُولئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِمَّا كَسَبُوا وَاللهُ سَرِيعُ الْحِسابِ (202) وَاذْكُرُوا اللهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُوداتٍ فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ لِمَنِ اتَّقى وَاتَّقُوا اللهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (203))

(وَاذْكُرُوا اللهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُوداتٍ) أي : مراتب معدودة بعد الفراغ من الحجّ ، وهو مرتبة الروح والقلب والنفس ، لأن الواصل إذا رجع ، رجع إلى هذه المراتب وعليه في المراتب الثلاث أن يكون بالله فذلك ذكره (فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ) أي : فمن تعجّل إلى حظوظه في مرتبة الروح والقلب فلا إثم عليه إذ الروح والقلب وحظوظهما لا يحجبان ولا يضران. ومعنى التعجل هو أن الحركة إذا كانت بالله كانت أسرع ولا يكون معها لبث ولا وقوف ريثما يظهر القلب أو الروح ويصير حجابا نوريا كما يكون لأصحاب التلوين (وَمَنْ تَأَخَّرَ) إلى الثالث الذي هو مرتبة النفس (فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ لِمَنِ اتَّقى) أي : ذلك الحكم لمن اتقى أن يكون مع حظوظ النفس بالنفس ، فإنّ النفس ألزم لحظها من صاحبيها وحظها أغلظ وأبعد من النور من حظوظهما وسريعا ما تظهر للزوم الطيش والحركة إياها بخلاف صاحبيها وحظها أيضا كثيرا ما يحجب ، وإذا حجب كان حجابه غليظا ظلمانيا فالاحتراز هناك والاحتياط واجب وأولى من الباقيين لأنهما إن ظهرا رقّ حجابهما وسهل زواله ، أو ذلك التخيير لمن اتقى في المراتب الثلاث. (وَاتَّقُوا اللهَ) في المواطن الثلاثة من ظهور الأنانية والآنية حتى تكونوا في الحظوظ به لا بالنفس ولا بالقلب ولا بالروح (وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ) أي : أنكم محشورون معه تحشرون من اسم إلى اسم حاضرون بحضرته فأنتم على خطر عظيم بخلاف سائر الناس كما ورد في الحديث : «المخلصون على خطر عظيم». وعن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن الله تعالى : «بشر المذنبين بأني غفور وأنذر الصدّيقين بأني غفور».

(وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَيُشْهِدُ اللهَ عَلى ما فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصامِ (204) وَإِذا تَوَلَّى سَعى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيها وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللهُ لا يُحِبُّ الْفَسادَ (205))
(وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ) أي : يدّعي المحبّة وهو ألدّ الخصام لكونه في مقام النفس زنديقا ، ولهذا قال : (قَوْلُهُ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا) إذ ليس له قول في الآخرة بالقلب (وَإِذا تَوَلَّى سَعى فِي الْأَرْضِ) لإباحته وتزندقه كما ترى عليه أكثر مدّعي المحبة والتوحيد (وَاللهُ لا يُحِبُّ الْفَسادَ) أي : هو مفسد ويدّعي محبة الله. وكيف تتأتى له والمحبّ لا يفعل إلا ما يحبّ محبوبه ، والله لا يحبّ ما يفعله فلا يكون صادقا في دعواه ..

(وَإِذا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهادُ (206) وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللهِ وَاللهُ رَؤُفٌ بِالْعِبادِ (207) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَلا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (208))
(وَإِذا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ) أي : حملته الحمية النفسانية حمية الجاهلية على الإثم لجاجا وأشرا لظهور نفسه حينئذ وزعمه أنه أعلم بما يفعل من ناصحه (فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ) أي : غايته عمق حضيض رتبته التي هو فيها وظلمتها ، فإنّ جهنم معناه : مهوى بعيد العمق مظلمة (يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللهِ) يبذل نفسه في سلوك سبيل الله طلبا لرضاه (ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ) أي : في الاستسلام وتسليم الوجوه لله ، إذ معاداة القوى بعضها بعضا ، وعدم موافقتها في التسليم لأمر الله دليل تتبع الشيطان ، وهو يريد أن تستحقوا قهر الله بارتكاب الإسرافات المذمومة لعداوته الغريزية لكم لاختلاف جبلته وجبلتكم ، وقصوره عن نور فطرتكم ، لكونه ناريّ الخلقة لا يطلب منكم إلا أن تكونوا ناريين مثله لا نورانيين. فهو عدوّ في الحقيقة في صورة المحبّ.

(فَإِنْ زَلَلْتُمْ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْكُمُ الْبَيِّناتُ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (209))
(فَإِنْ زَلَلْتُمْ) عن مقام التسليم لأمر الله (مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْكُمُ) دلائل تجليات الأفعال والصفات (فَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ عَزِيزٌ) غالب يقهركم (حَكِيمٌ) لا يقهر إلا على مقتضى الحكمة ، والحكمة تقتضي قهر المخالف المنازع ، ليعتبر المطيع الموافق ويزيد في الطاعة.

(هَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمامِ وَالْمَلائِكَةُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَإِلَى اللهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (210) سَلْ بَنِي إِسْرائِيلَ كَمْ آتَيْناهُمْ مِنْ آيَةٍ بَيِّنَةٍ وَمَنْ يُبَدِّلْ نِعْمَةَ اللهِ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُ فَإِنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقابِ (211) زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا الْحَياةُ الدُّنْيا وَيَسْخَرُونَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ اتَّقَوْا فَوْقَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَاللهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ (212))
(هَلْ يَنْظُرُونَ) أي : هل ينتظرون (إِلَّا أَنْ) يتجلى (اللهُ فِي ظُلَلٍ) صفات الهوية من جملة تجلّيات الصفات وصور ملائكة القوى السماوية. وقضى في اللوح أمر إهلاكهم (وَإِلَى اللهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ) فيقابل كل امرئ بجزائه أو تزهق إليه بالفناء.

(كانَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً فَبَعَثَ اللهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلاَّ الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّناتُ بَغْياً بَيْنَهُمْ فَهَدَى اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللهُ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (213))

(كانَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً) أي : على الفطرة ودين الحق ، كما قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «كلّ مولود يولد على الفطرة» ، وهو في عهد الفطرة الأولى على الحقيقة ، أو في زمن الطفولة ، أو في عهد آدم عليه‌السلام (كانَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً) ثم اختلفوا في النشأة بحسب اختلاف طبائعهم وغلبة صفات نفوسهم ، وتفرّق أهوائهم. فإن تضادّ أصول بنيتهم ومراكز أبدانهم باختلاف البقاع والأهوية ، اقتضى ذلك وكذا ما في طباعهم من جذب النفع الخاص ودفع الضرّ الخاص لاحتجاب كل بمادة بدنه واقتضاء الحكمة الإلهية ذلك لمصلحة النشو والنماء يقتضي التعادي والتخالف (فَبَعَثَ اللهُ النَّبِيِّينَ) ليدعوهم من الخلاف إلى الوفاق ، ومن الكثرة إلى الوحدة ، ومن العداوة إلى المحبة ، فتفرّقوا وتحزبوا عليهم وتميزوا ، فأمّا السفليون الذين رسخت في طباعهم محبة الباطل وغلب على قلوبهم الرين وطبع عليها وعميت وزال استعدادهم بغلبة هواهم ، فازدادوا خلافا وعنادا ، فكأنهم ما اختلفوا إلا عند بعثهم وإتيانهم بالكتاب الذي هو سبب ظهور الحق والوفاق حسدا بينهم ، ناشئا من عند أنفسهم ، وغلبة هواهم واحتجابهم. وأمّا العلويون الذين بقوا على الصفاء الأصليّ والاستعداد الأول فهداهم الله إلى الحق الذي اختلفوا فيه وزال خلافهم وسلكوا الصراط المستقيم.

(أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْساءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتى نَصْرُ اللهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللهِ قَرِيبٌ (214) يَسْئَلُونَكَ ما ذا يُنْفِقُونَ قُلْ ما أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ فَلِلْوالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَما تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللهَ بِهِ عَلِيمٌ (215))
(أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا) جنّة تجلّي الجمال (وَلَمَّا يَأْتِكُمْ) حال (الَّذِينَ) مضوا (مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ) بأساء الترك والتجريد والفقر والافتقار ، وضرّاء المجاهدة والرياضة وكسر النفس بالعبادة (وَزُلْزِلُوا) بدواعي الشوق والمحبة عن مقارّ نفوسهم ليظهروا ما في استعدادهم بالقوّة (حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتى نَصْرُ اللهِ) أي : حتى تضجروا من طول مدّة الحجاب ، وكثرة الجهاد من الفراق ، وعيل صبرهم عن مشاهدة الجمال ، وذوق الوصال ، وطلبوا نصر الله بالتجلي على قمع صفات النفوس مع قوة مصابرتهم ، وحسن تحملهم ، لما يفعل المحبوب ويريد بهم من ابتلائهم بالهجران ، وإذاقتهم طعم الفرقة لاشتداد قوة المحبة ، فكيف بغيرهم؟ فأجيبوا إذا بلغ جهدهم ونفدت طاقتهم وقيل لهم (أَلا إِنَّ نَصْرَ اللهِ قَرِيبٌ) أي : رفع الحجاب وظهرت آثار الجمال.

(كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئاً وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ (216))
(كُتِبَ عَلَيْكُمُ) قتال النفس والشيطان وهو مكروه لكم أمرّ من طعم العلقم ، وأشدّ من ضغم الضيغم (وَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ) لاحتجابكم بهوى النفس وحب اللذّة العاجلة عما في ضمنه من الخير الكثير ، واللذّة العظيمة الروحانية التي تستحقر تلك الشدّة السريعة ، الانقضاء بالقياس إلى ذلك الخير الباقي ، واللذّة السرمدية وكذا عكسه (وَاللهُ يَعْلَمُ) ما في الأمور من الخير والشرّ (وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ) ذلك لاحتجابكم بالعاجل عن الآجل ، وبالظاهر عن الباطن.

(يَسْئَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرامِ قِتالٍ فِيهِ قُلْ قِتالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَإِخْراجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللهِ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ وَلا يَزالُونَ يُقاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطاعُوا وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كافِرٌ فَأُولئِكَ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (217))
(يَسْئَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرامِ قِتالٍ فِيهِ) يسألونك عن جهاد النفس وأعوانها ، والشيطان وجنوده في وقت التوجه والسلوك إلى الحق وجمعية الباطن الحرام فيه حركة السرّ (قُلْ) الجهاد في ذلك الوقت أمر عظيم شاق ، وصرف وجوهكم عن سبيل الله ، ومقام السر ، ومحل الحضور احتجاب عن الحق ، وإخراج أهل القلب الذين هم القوى الروحانية عن مقارّهم أعظم وأكبر عند الله ، وفتنة الشرك والكفر وبلاؤهما عليكم أشدّ من قتلكم إياهم بسيف الرياضة.
ولا تزال تلك القوى النفسانية والأهواء الشيطانية يقاتلونكم بذبكم عن دينكم ومقصدكم ، ودعوتكم إلى دين الهوى والشيطان (حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطاعُوا وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ) باتباعهم (فَأُولئِكَ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ) التي عملوها في الاستسلام والانقياد (وَأُولئِكَ أَصْحابُ) نار الحجاب والتعذيب (هُمْ فِيها خالِدُونَ).

(إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هاجَرُوا وَجاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللهِ أُولئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَتَ اللهِ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (218))
(إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا) يقينا (وَالَّذِينَ هاجَرُوا) أوطان النفس ومألوفات الهوى (وَجاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللهِ) وجنود الشيطان والنفس الأمّارة (أُولئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَتَ اللهِ) تجليات الصفات وأنوار المشاهدة.

(يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِما إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُما أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِما وَيَسْئَلُونَكَ ما ذا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ (219) فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْيَتامى قُلْ إِصْلاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ وَإِنْ تُخالِطُوهُمْ فَإِخْوانُكُمْ وَاللهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ وَلَوْ شاءَ اللهُ لَأَعْنَتَكُمْ إِنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (220) وَلا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ وَلَأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ وَلا تُنْكِحُوا الْمُشْرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُوا وَلَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكٍ وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ أُولئِكَ يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَاللهُ يَدْعُوا إِلَى الْجَنَّةِ وَالْمَغْفِرَةِ بِإِذْنِهِ وَيُبَيِّنُ آياتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (221) وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذىً فَاعْتَزِلُوا النِّساءَ فِي الْمَحِيضِ وَلا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ فَإِذا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللهُ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ (222) نِساؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ وَقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ وَاتَّقُوا اللهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ مُلاقُوهُ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (223) وَلا تَجْعَلُوا اللهَ عُرْضَةً لِأَيْمانِكُمْ أَنْ تَبَرُّوا وَتَتَّقُوا وَتُصْلِحُوا بَيْنَ النَّاسِ وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (224) لا يُؤاخِذُكُمُ اللهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمانِكُمْ وَلكِنْ يُؤاخِذُكُمْ بِما كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ وَاللهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ (225) لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فَإِنْ فاؤُ فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (226) وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلاقَ فَإِنَّ اللهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (227) وَالْمُطَلَّقاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ وَلا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ ما خَلَقَ اللهُ فِي أَرْحامِهِنَّ إِنْ كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذلِكَ إِنْ أَرادُوا إِصْلاحاً وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ وَاللهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (228) الطَّلاقُ مَرَّتانِ فَإِمْساكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسانٍ وَلا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئاً إِلاَّ أَنْ يَخافا أَلاَّ يُقِيما حُدُودَ اللهِ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ يُقِيما حُدُودَ اللهِ فَلا جُناحَ عَلَيْهِما فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ تِلْكَ حُدُودُ اللهِ فَلا تَعْتَدُوها وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللهِ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (229) فَإِنْ طَلَّقَها فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ فَإِنْ طَلَّقَها فَلا جُناحَ عَلَيْهِما أَنْ يَتَراجَعا إِنْ ظَنَّا أَنْ يُقِيما حُدُودَ اللهِ وَتِلْكَ حُدُودُ اللهِ يُبَيِّنُها لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (230) وَإِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَلا تُمْسِكُوهُنَّ ضِراراً لِتَعْتَدُوا وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ وَلا تَتَّخِذُوا آياتِ اللهِ هُزُواً وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللهِ عَلَيْكُمْ وَما أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنَ الْكِتابِ وَالْحِكْمَةِ يَعِظُكُمْ بِهِ وَاتَّقُوا اللهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (231) وَإِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْواجَهُنَّ إِذا تَراضَوْا بَيْنَهُمْ بِالْمَعْرُوفِ ذلِكَ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كانَ مِنْكُمْ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذلِكُمْ أَزْكى لَكُمْ وَأَطْهَرُ وَاللهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ (232) وَالْوالِداتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كامِلَيْنِ لِمَنْ أَرادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضاعَةَ وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ لا تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلاَّ وُسْعَها لا تُضَارَّ والِدَةٌ بِوَلَدِها وَلا مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدِهِ وَعَلَى الْوارِثِ مِثْلُ ذلِكَ فَإِنْ أَرادا فِصالاً عَنْ تَراضٍ مِنْهُما وَتَشاوُرٍ فَلا جُناحَ عَلَيْهِما وَإِنْ أَرَدْتُمْ أَنْ تَسْتَرْضِعُوا أَوْلادَكُمْ فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ إِذا سَلَّمْتُمْ ما آتَيْتُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَاتَّقُوا اللهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (233) وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْواجاً يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً فَإِذا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ فِيما فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (234) وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ فِيما عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّساءِ أَوْ أَكْنَنْتُمْ فِي أَنْفُسِكُمْ عَلِمَ اللهُ أَنَّكُمْ سَتَذْكُرُونَهُنَّ وَلكِنْ لا تُواعِدُوهُنَّ سِرًّا إِلاَّ أَنْ تَقُولُوا قَوْلاً مَعْرُوفاً وَلا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكاحِ حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتابُ أَجَلَهُ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ ما فِي أَنْفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ (235) لا جُناحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّساءَ ما لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ مَتاعاً بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ (236) وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ ما فَرَضْتُمْ إِلاَّ أَنْ يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَا الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكاحِ وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوى وَلا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ إِنَّ اللهَ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (237) حافِظُوا عَلَى الصَّلَواتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطى وَقُومُوا لِلَّهِ قانِتِينَ (238) فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجالاً أَوْ رُكْباناً فَإِذا أَمِنْتُمْ فَاذْكُرُوا اللهَ كَما عَلَّمَكُمْ ما لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ (239) وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْواجاً وَصِيَّةً لِأَزْواجِهِمْ مَتاعاً إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْراجٍ فَإِنْ خَرَجْنَ فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ فِي ما فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ مِنْ مَعْرُوفٍ وَاللهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (240) وَلِلْمُطَلَّقاتِ مَتاعٌ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ (241) كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمْ آياتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (242))
(يَسْئَلُونَكَ عَنِ) خمر الهوى وحبّ الدنيا وميسر احتيال النفس في جذب الحظ (قُلْ فِيهِما إِثْمٌ) الحجاب والبعد (وَمَنافِعُ لِلنَّاسِ) في باب المعاش وتحصيل اللذّة النفسانية ، والفرح بالذهول عن الهيئات الرديئة المشوّشة والهموم المكدّرة.

(أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ فَقالَ لَهُمُ اللهُ مُوتُوا ثُمَّ أَحْياهُمْ إِنَّ اللهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ (243))
(أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيارِهِمْ) أي : أوطانهم المألوفة ومقارّ نفوسهم المعهودة ومقاماتهم ومراتبهم من الدنيا وما ركنوا إليها بدواعي الهوى ، وهم قوم كثير (حَذَرَ الْمَوْتِ) الجهل والانقطاع عن الحياة الحقيقية والوقوع في المهاوي الطبيعية (فَقالَ لَهُمُ اللهُ مُوتُوا) أي : أمرهم بالموت الإرادي ، أو أماتهم عن ذواتهم بالتجلي الذاتي ، حتى فنوا في الوحدة (ثُمَّ أَحْياهُمْ) بالحياة الحقيقية العلمية ، أو به بالوجود الموهوب الحقاني ، والبقاء بعد الفناء. ولا يبعد أن يريد به ما أراد من قصة عزير ، أي : خرجوا هاربين من الموت الطبيعي فأماتهم الله ثم أحياهم بتعلق أرواحهم بأبدان من جنس أبدانهم ليحصلوا بها كمالهم.

(وَقاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (244) مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضاعِفَهُ لَهُ أَضْعافاً كَثِيرَةً وَاللهُ يَقْبِضُ وَيَبْصُطُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (245))
(وَقاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ) النفس والشيطان على الأول والثاني. وعلى الثالث لا تخافوا من الموت في مقاتلة الأعداء ، فإن الهرب منه لا ينفع كما لم ينفع أولئك. والله يحييكم كما أحياهم (قَرْضاً حَسَناً) هو بذل النفس بالجهاد ، أو بذل المال بالإيثار (وَاللهُ يَقْبِضُ وَيَبْصُطُ) أي : هو مع معاملتكم في القبض والبسط ، فإنكم بأوصافكم تستنزلون أوصافه. إن تبخلوا بما في أيديكم يضيّق عليكم ويقتر ، وإن تجودوا يوسع عليكم بحسب جودكم كما ورد في الحديث : «تنزل المعونة على قدر المؤونة».

(أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلَإِ مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ مِنْ بَعْدِ مُوسى إِذْ قالُوا لِنَبِيٍّ لَهُمُ ابْعَثْ لَنا مَلِكاً نُقاتِلْ فِي سَبِيلِ اللهِ قالَ هَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتالُ أَلاَّ تُقاتِلُوا قالُوا وَما لَنا أَلاَّ نُقاتِلَ فِي سَبِيلِ اللهِ وَقَدْ أُخْرِجْنا مِنْ دِيارِنا وَأَبْنائِنا فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتالُ تَوَلَّوْا إِلاَّ قَلِيلاً مِنْهُمْ وَاللهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (246) وَقالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ اللهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طالُوتَ مَلِكاً قالُوا أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنَ الْمالِ قالَ إِنَّ اللهَ اصْطَفاهُ عَلَيْكُمْ وَزادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ وَاللهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشاءُ وَاللهُ واسِعٌ عَلِيمٌ (247) وَقالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَبَقِيَّةٌ مِمَّا تَرَكَ آلُ مُوسى وَآلُ هارُونَ تَحْمِلُهُ الْمَلائِكَةُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (248) فَلَمَّا فَصَلَ طالُوتُ بِالْجُنُودِ قالَ إِنَّ اللهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي إِلاَّ مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ فَشَرِبُوا مِنْهُ إِلاَّ قَلِيلاً مِنْهُمْ فَلَمَّا جاوَزَهُ هُوَ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ قالُوا لا طاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجالُوتَ وَجُنُودِهِ قالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُوا اللهِ كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللهِ وَاللهُ مَعَ الصَّابِرِينَ (249) وَلَمَّا بَرَزُوا لِجالُوتَ وَجُنُودِهِ قالُوا رَبَّنا أَفْرِغْ عَلَيْنا صَبْراً وَثَبِّتْ أَقْدامَنا وَانْصُرْنا عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ (250) فَهَزَمُوهُمْ بِإِذْنِ اللهِ وَقَتَلَ داوُدُ جالُوتَ وَآتاهُ اللهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشاءُ وَلَوْ لا دَفْعُ اللهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ وَلكِنَّ اللهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعالَمِينَ (251) تِلْكَ آياتُ اللهِ نَتْلُوها عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (252) تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجاتٍ وَآتَيْنا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّناتِ وَأَيَّدْناهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ وَلَوْ شاءَ اللهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّناتُ وَلكِنِ اخْتَلَفُوا فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ وَمِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ وَلَوْ شاءَ اللهُ مَا اقْتَتَلُوا وَلكِنَّ اللهَ يَفْعَلُ ما يُرِيدُ (253) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْناكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا بَيْعٌ فِيهِ وَلا خُلَّةٌ وَلا شَفاعَةٌ وَالْكافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ (254))
(طالُوتَ) كان رجلا فقيرا ، لا نسب له ، ولا مال ، فما قبلوه للملك. لأن استحقاق الملك والرياسة عند العامة إنما هو بالسعادة الخارجية التي هي المال والنسب ، فنبّه نبيهم على أن الاستحقاق إنما يكون بالسعادتين الأخريين : الروحانية التي هي العلم. والبدنية : التي هي زيادة القوى وشدّة البنية والبسطة ، بقوله : (وَزادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ) والله أعلم بمن يستحق الملك فيؤتيه (مَنْ يَشاءُ وَاللهُ واسِعٌ) كثير العطاء ، يؤتي المال كما يؤتي الملك (عَلِيمٌ) بمن له الاستحقاق وما يحتاج إليه من المال الذي يعتضد به ، فيعطيه. ثم بيّن أن استحقاق الملك له علامة أخرى وهي : إذعان الخلق له ، ووقوع هيبته ووقاره في القلوب ، وسكون قلوبهم إليه ، ومحبتهم له ، وقبولهم لأمره على الطاعة والانقياد. وهو الذي كان يسميه الأعاجم من قدماء الفرس «خوره». وما يختص بالملوك كيان خوره ، ثم من بعدهم سموه «فر» فقالوا : كان فر للملك في أفريدون ، وذهب عن كيكاؤوس فر الملك ، فطلبوا من له الفر ، فوجدوا للملك المبارك كيخسرو وسمّاه «التابوت» أي : ما يرجع إليه من الأمور. لأنّ التابوت فعلوت من التوب ، أي : يأتيكم من جهته ما يرجع في ثبوت ملكه من الإذعان والطاعة والانقياد والمحبة له بإلقاء الله له ذلك في قلوبكم ، كما قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «نصرت بالرعب مسيرة شهر».
أو ما يرجع إليه من الحالة النفسانية ، والهيئة الشاهدة له على صحة ملكه (فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ) أي : ما تسكن قلوبكم إليه (وَبَقِيَّةٌ مِمَّا تَرَكَ آلُ مُوسى وَآلُ هارُونَ) في أولادهم من المعنى المسمّى «فر» وهو نور ملكوتيّ تستضيء به النفس باتصالها بالملكوت السماوية ، واستفاضتها ذلك من عالم القدرة مستلزم لحصول علم السياسة وتدبير الملك والحكمة المزيّنة لها (تَحْمِلُهُ الْمَلائِكَةُ) أي : ينزل إليكم بتوسط الملائكة السماوية. ويمكن أنه كان صندوقا فيه طلسم من باب نصرة الجيش وغيره من الطلسمات التي تذكر أنها للملك على ما يرى من أنه كان فيه صورة لها رأس كرأس الآدمي والهرّ ، وذنب كذنبه كالذي كان في عهد أفريدون المسمى «درفش كاويان».
(إِنَّ اللهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ) هو منهل الطبيعة الجسمانية (فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي) أي : من كرع فيه مفرطا في الريّ منه. لأنّ أهل الطبيعة وعبدة الشهوات أذلّ وأعجز خلق الله ، لا قوّة لهم بقتال جالوت النفس الأمّارة ، ولا بجالوت عدّو الدين ، إذ لا حمية لهم ولا تشدّد (إِلَّا مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ) أي : إلا من اقتنع منه بقدر الضرورة والاحتياج من غير حرص وانهماك فيه (فَشَرِبُوا مِنْهُ) أي : كرعوا فيه وانهمكوا (إِلَّا قَلِيلاً مِنْهُمْ) إذ المتنزهون عن الأقذار الطبيعية ، المتقدّسون عن ملابسها ، المتجرّدون عن غواشيها قليلون بالنسبة إلى من عداهم. قال الله تعالى : (وَقَلِيلٌ ما هُمْ) (1) ، (وَقَلِيلٌ مِنْ عِبادِيَ الشَّكُورُ) (2) وهم الذين آمنوا معه من أهل اليقين الذين كانوا يعلمون بنور يقينهم أن الغلبة ليست بالكثرة ، بل بالنصرة الإلهية ، فصبروا على ما عاينوا بقوّة يقينهم ، فظفروا.
_
(اللهُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلاَّ بِما شاءَ وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَلا يَؤُدُهُ حِفْظُهُما وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ (255))
(اللهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ) في الوجود ، فكلّ ما عبد دونه لم تقع العبادة إلا له ، علم أو لم يعلم ، إذ لا معبود ولا موجود سواه (الْحَيُ) الذي حياته عين ذاته ، وكلّ ما هو حيّ لم يحيى إلا بحياته (الْقَيُّومُ) الذي يقوم بنفسه ويقوم كلّ ما يقوم به. فلو لا قيامه ما قام شيء في الوجود (لا تَأْخُذُهُ) غفوة ونعاس ، كما يعتري الأحياء من غير قصدهم. فإنّ ذلك لا يكون إلا لمن حياته عارضة ، فتغلبه الطبيعة بالحالة الذاتية طلبا للهدوء والراحة والإبدال عن تحليل اليقظة. فأمّا من حياته عين ذاته ، فلا يمكن له ذلك. وبين كون حياته غير عارضة بقوله (وَلا نَوْمٌ) فإنّ النوم ينافي كون الحياة ذاتية ، لأنه أشبه شيء بالموت. ولهذا قيل : النوم أخو الموت. ومن لا نوم له لذاته ، لمنافاة كون الحياة غير ذاته ، فلا سنة له ، إذ السنة من مقدّماته وآثاره كما تقول : ليس له ضحك ولا تعجب ، وقوله : (لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ) بيان لقيوميته (لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ) نواصيهم بيده ، يفعل بهم ما يشاء. (مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ) إذ كلهم له وبه يتكلم من يتكلم به وبكلامه ، فكيف يتكلم بغير إذنه وإرادته (يَعْلَمُ) ما قبلهم وما بعدهم ، فكيف بهم وبحالهم. أي : علمه شامل للأزمنة والأشخاص والأحوال كلها ، فيعلم المستحق للشفاعة ، وغير المستحق لها (وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِما شاءَ) أي : بما اقتضت مشيئته أن يعلمهم ، فعلم كلّ ذي علم شيء من علمه ظهر على ذلك المظهر ، كما قالت الملائكة : (لا عِلْمَ لَنا إِلَّا ما عَلَّمْتَنا)
(وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ) أي : علمه ، إذ الكرسيّ مكان العلم الذي هو القلب. كما قال أبو يزيد البسطامي رحمة الله عليه : لو وقع العالم وما فيه ألف ألف مرّة في زاوية من زوايا قلب العارف ما أحسّ به لغاية سعته. ولهذا قال الحسن : كرسيه : عرشه ، مأخوذ من قوله عليه‌السلام : «قلب المؤمن من عرش الله». والكرسي في اللغة : عرش صغير لا يفضل عن مقعد القاعد ، شبه القلب به تصويرا وتخييلا لعظمته وسعته. وأما العرش المجيد الأكبر فهو الروح الأول وصورتهما ومثالهما في الشاهد الفلك الأعظم ، والثامن المحيط بالسموات السبع وما فيهنّ (وَلا يَؤُدُهُ) أي : ولا يثقله (حِفْظُهُما) لأنهما غير موجودين بدونه ليثقله حملهما ، بل العالم المعنوي كله باطنه والصوريّ ظاهره ، فلا وجود لهما إلا به وليس غيره. (وَهُوَ الْعَلِيُ) الشأن الذي لا يعلوه شيء وهو يعلو كل شيء ، ويقهره بالفناء (الْعَظِيمُ) الذي لا يتصوّر كنه عظمته ، وكل عظمة تتصور لشيء فهي رشحة من عظمته ، وكل عظيم فبنصيب من عظمته وحصة منها عظيمة. فالعظمة مطلقا له دون غيره ، بل كلها له ، ليس لغيره فيها نصيب. وهي أعظم آية في القرآن لعظم مدلولها.

(لا إِكْراهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقى لا انْفِصامَ لَها وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (256))
(لا إِكْراهَ فِي الدِّينِ) لأن الدين في الحقيقة هو الهدى المستفاد من النور القلبي ، اللازم للفطرة الإنسانية ، المستلزم للإيمان اليقيني. كما قال تعالى : (فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَتَ اللهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْها لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللهِ ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ) ، والإسلام الذي هو ظاهر الدين مبتن عليه وهو أمر لا مدخل للإكراه فيه. والدليل على أنّ باطن الدين وحقيقته الإيمان كما أن ظاهره وصورته الإسلام ما بعده (قَدْ تَبَيَّنَ) أي تميز (الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِ) بالدلائل الواضحة لمن له بصيرة وعقل ، كما قيل : قد أضاء الصبح لذي عينين.

(فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ) أي : ما سوى الله وينفي وجوده وتأثيره (وَيُؤْمِنْ بِاللهِ) إيمانا شهوديا حقيقيا (فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقى) أي : تمسك بالوحدة الذاتية التي وثوقها وإحكامها بنفسها ، فلا شيء أوثق منها ، إذ كلّ وثيق بها موثوق ، بل كل وجود بها موجود وبنفسه معدوم ، فإذا اعتبر وجوده فله انفصام في نفسه لأن الممكن وثاقته ووجوده بالواجب ، فإذا قطع النظر عنه فقد انقطع وجود ذلك الممكن ولم يكن في نفسه شيئا. ولا يمكن انفصامه عن وجود عين ذاته ، إذ ليس فيه تجزؤ واثنينية ، وفي الانفصام لطيفة وهو أنه انكسار بلا انفصال. ولما لم ينفصل شيء من الممكنات من ذاته تعالى ، ولم يخرج منه ، لأنه إما فعله وإما صفته ، فلا انفصال قطعا ، بل إذا اعتبره العقل بانفراده كان منفصما ، أي : منقطع الوجود متعلقا وجوده بوجوده تعالى (وَاللهُ سَمِيعٌ) يسمع قول ذوي دين (عَلِيمٌ) بنياتهم وإيمانهم.

(اللهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِياؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُماتِ أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (257))
(اللهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا) متولي أمورهم ومحبتهم (يُخْرِجُهُمْ) من ظلمات صفات النفس وشبه الخيال والوهم ، إلى نور اليقين والهدى وفضاء عالم الروح (وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِياؤُهُمُ) ما يعبدون من دون الله (يُخْرِجُونَهُمْ) من نور الاستعداد والهداية الفطرية إلى ظلمات صفات النفس والشكوك والشبهات.

(أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْراهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتاهُ اللهُ الْمُلْكَ إِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ قالَ إِبْراهِيمُ فَإِنَّ اللهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِها مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (258) أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلى قَرْيَةٍ وَهِيَ خاوِيَةٌ عَلى عُرُوشِها قالَ أَنَّى يُحْيِي هذِهِ اللهُ بَعْدَ مَوْتِها فَأَماتَهُ اللهُ مِائَةَ عامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ قالَ كَمْ لَبِثْتَ قالَ لَبِثْتُ يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قالَ بَلْ لَبِثْتَ مِائَةَ عامٍ فَانْظُرْ إِلى طَعامِكَ وَشَرابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ وَانْظُرْ إِلى حِمارِكَ وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِلنَّاسِ وَانْظُرْ إِلَى الْعِظامِ كَيْفَ نُنْشِزُها ثُمَّ نَكْسُوها لَحْماً فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ قالَ أَعْلَمُ أَنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (259) وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتى قالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قالَ بَلى وَلكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي قالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءاً ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْياً وَاعْلَمْ أَنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (260))
(أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلى قَرْيَةٍ) أي : أرأيت مثل الذي مرّ على قرية باد أهلها ، وسقطت سقوفها ، وخرّت جدرانها عليها ، فتعجب من إحيائها لكونه طالبا سالكا لم يصل إلى مقام اليقين بعد ، ولم يستعد لقبول نور تجلّي اسم المحيي ـ والمشهور أنه كان عزير ـ (فَأَماتَهُ اللهُ) أي : فأبقاه على موت الجهل. كما قال : (أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ) على قول ، وقال تعالى : (وَكُنْتُمْ أَمْواتاً فَأَحْياكُمْ) . (مِائَةَ عامٍ) يمكن أن يكون العام في عهدهم كان مبنيا على دور القمر ، فيكون ثمانية أعوام وأربعة أشهر ، وأن يكون مبنيا على فصول السنة فيكون خمسة وعشرين سنة ، وأن تكون أعمارهم في ذلك الزمان كانت طويلة (ثُمَّ بَعَثَهُ) بالحياة الحقيقية وطلب منه الوقوف على مدّة اللبث فما ظنها إلا يوما أو بعض يوم ، استصغار المدة اللبث في موت الجهل المنقضية بالنسبة إلى الحياة الأبدية ولعدم شعوره بمرور المدة كالنائم الغافل عن الزمان ومروره. ثم لما تفكّر نبّهه الله تعالى على طول مدة الجهل وموت الغفلة ، بأنه مائة عام ، أو أماته بالموت الإراديّ في إحدى المدد المذكورة ، فتكون المدة زمان رياضته وسلوكه ومجاهدته في سبيل الله ، أو أماته حتف أنفه بالموت الطبيعي فتعلق روحه ببدن آخر من جنسه لاكتساب الكمال إما بعد زمان وإما في الحال حتى مرّ عليه إحدى المدد الثلاث المذكورة ، وهو لا يطّلع على حاله فيها ، ولم يشعر بمبدئه ومعاده وكان ميتا ثمّ بالحياة الحقيقية فاطلع بنور العلم على حاله وعرف مبدأه ومعاده.
وقوله : (لَبِثْتُ يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ) كقوله تعالى : (وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ كَأَنْ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا ساعَةً مِنَ النَّهارِ) (1) ، وقوله تعالى : (كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَها لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا عَشِيَّةً أَوْ ضُحاها (46)) ، وقوله : (وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ ما لَبِثُوا غَيْرَ ساعَةٍ) كل ذلك لغفلتهم عن مرور الزمان وكذا مفارق أخا أو مصاحبا أو شيئا آخر إذا أدرك الوصال بعد طول مدة الفراق كأن تلك المدة حينئذ لم تكن ، إذ لا يحس بها بعد مضيها وإن قاساها قبل الوصال (فَانْظُرْ إِلى طَعامِكَ وَشَرابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ) قيل : طعامه التين والعنب ، وشرابه الخمر واللبن. فالتين إشارة إلى المدركات الكلية لكونه لبا كله ، وكون الجزئيات فيها بالقوة ، كالحبات التي في التين ، والعنب إشارة إلى الجزئيات لبقاء اللواحق الماديّة معها في الإدراك كالثجير والعجم. واللبن إشارة إلى العلم النافع كالشرائع. والخمر إشارة إلى العشق والإرادة وعلوم المعارف والحقائق. لم يتسنه أي : لم يتغير عما كان في الأزل بحسب الفطرة مودعا فيك ، فإن العلوم مخزونة في كل نفس بحسب استعدادها ، كما قال عليه‌السلام : «الناس معادن كمعادن الذهب والفضة». فإن حجبت بالموادّ وخفيت مدّة بالتقلّب في البرازخ وظلماتها ، لم تبطل ولم تتغير عن حالها. حتى إذا رفع الحجاب بصفاء القلب ظهرت كما كانت ، ولهذا قال عليه‌السلام : «الحكمة ضالّة المؤمن».

(وَانْظُرْ إِلى حِمارِكَ) أي : بدنك بحاله على الوجه الأول والثاني ، وكيف نخرت عظامه وبليت على الوجه الثالث (وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِلنَّاسِ) أي : ولنجعلك دليلا للناس على البعث ، بعثناك (وَانْظُرْ إِلَى الْعِظامِ كَيْفَ نُنْشِزُها) أي : نرفعها (ثُمَّ نَكْسُوها لَحْماً) على كلا الوجهين ظاهر ، فإنه إذا بعث وعلم حاله وتجرّده عن البدن علم تركيب بدنه برفع العظام وجمعها وكسوتها لحما (فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ) ذلك البعث والنشور (قالَ أَعْلَمُ أَنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌوَ إِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتى) أي : بلغني إلى مقام العيان من مقام العلم الإيقاني. ولهذا قرر إيمانه بهمزة الاستفهام التقريرية.

ف (قالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ) أي : أو لم تعلم ذلك يقينا؟ ، وأجاب إبراهيم عليه‌السلام بقوله : (بَلى وَلكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي) أي : ليسكن وتحصل طمأنينته بالمعاينة ، فإنّ عين اليقين إنما يوجب الطمأنينة لا علمه (قالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ) أي : القوى الأربعة التي تمنعه عن مقام العيان وشهود الحياة الحقيقية. وقيل : كانت طاوسا وديكا وغرابا وحمامة. وفي رواية بطّة ، فالطاوس هو العجب ، والديك الشهوة ، والغراب الحرص ، والحمامة حبّ الدنيا لتألفها وكرها وبرجها. والظاهر أنها بطة فتكون إشارة إلى الشره الغالب عليها (فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ) أي أملهنّ واضممهنّ إليك بضبطها ومنعها عن الخروج إلى طلب لذاتها والنزوع إلى مألوفاتها. وقيل : أمر بأن يذبحها وينتف ريشها ويخلط لحومها ودماءها بالدق ويحفظ رؤوسها عنده ، أي : يمنعها عن أفعالها ويزيل هيئاتها عن النفس ، ويقمع دواعيها وطبائعها وعاداتها بالرياضة ، ويبقي أصولها فيه.
(ثُمَّ اجْعَلْ عَلى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءاً) أي : من الجبال التي بحضرتك ، وهي العناصر الأربعة التي هي أركان بدنه ، أي : اقمعها وأمتها حتى لا يبقى إلا أصولها المركوزة في وجودك وموادّها المعدّة في طبائع العناصر التي فيك. كانت الجبال سبعة ، فعلى هذا يشير بها إلى الأعضاء السبعة التي هي أجزاء البدن (ثُمَّ ادْعُهُنَ) أي : أنها إذا أنت حييت بحياتها كانت غير طيعة مستولية عليك ، وحشية ممتنعة عن قبول أمرك ، فإذا قتلتها كنت حيا بالحياة الحقيقية الموهوبة بعد الفناء والمحو. فتصير هي حيّة بحياتك لا بحياتها ، حياة النفس مطيعة لك منقادة لأمرك فإذ دعوتها (يَأْتِينَكَ سَعْياً وَاعْلَمْ أَنَّ اللهَ عَزِيزٌ) غالب على قهر النفوس (حَكِيمٌ) لا يقهرها إلا بحكمة. ويمكن حمله على حشر الوحوش والطيور ، وعلى هذا فيكون جعل أجزائها على الجبال تغذية الجسم بها ودعاؤه وإتيانه إليه ساعية توجهها إلى الإنسان بعد النشور.

(مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللهُ يُضاعِفُ لِمَنْ يَشاءُ وَاللهُ واسِعٌ عَلِيمٌ (261) الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ ثُمَّ لا يُتْبِعُونَ ما أَنْفَقُوا مَنًّا وَلا أَذىً لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (262))
(مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ) ذكر سبحانه ثلاث إنفاقات وفاضل بينها في الجزاء ، أولها : الإنفاق في سبيل الله وهو إنفاق في عالم الملك عن تجلي الأفعال يعطيه صاحبه ليثيبه الله تعالى ، فأثابه سبعمائة أضعاف ما أعطى ثم زاد في الأضعاف إلى ما لا يتناهى بحسب المشيئة لأنّ يده تعالى أبسط وأطول من يده بما لا يتناهى. (وَاللهُ واسِعٌ) كثير العطاء ، لا يتقدّر بأعطيتنا عطاؤه (عَلِيمٌ) بنيّات المعطين واعتقاداتهم أنه من فضل الله تعالى ، فيثيبهم على حسب ذلك. وثانيها : الإنفاق عن مقام مشاهدة الصفات على ما سيأتي ، وهو الإنفاق لطلب رضاء الله كما أن الأولى هو الإنفاق لطلب عطاء الله. وثالثها : الإنفاق بالله ، وهو عن مقام شهود الذات (ثُمَّ لا يُتْبِعُونَ ما أَنْفَقُوا مَنًّا وَلا أَذىً) نبّه على أن الإنفاق يبطله المنّ والأذى ، لأن الإنفاق إنما يكون محمودا لثلاثة أوجه : كونه موافقا للأمر بالنسبة إلى الله تعالى ، وكونه مزيلا لرذيلة البخل بالنسبة إلى نفس المنفق ، وكونه نافعا مريحا بالنسبة إلى المستحق. فإذا منّ صاحبه فقد خالف أمر الله لأنه منهيّ وظهرت نفسه بالاستطالة والاعتداد بالنعمة والعجب والاحتجاب بفعلها ورؤية النعمة منها لا من الله ، وكلها رذائل أردأ من البخل ، لازمة له ، ولو لم يكن له إلا رؤية نفسه بالفضيلة لكفاه مبطلا. وأما الوجه الثالث الذي هو بالنسبة إلى المستحق ، فيبطله الأذى المنافي للراحة والنفع والمن أيضا مبطل له لاقتضائه الترفع وإظهار الاصطناع وإثبات حق عليه. ثم قال : (قَوْلٌ مَعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ يَتْبَعُها أَذىً) إذ القول الجميل ، وإن كان بالردّ ، يفرح قلبه ، ويروّح روحه ، والصدقة إنما تنفع جسده ولا تفرّح القلب إلا بالتبعية وتصوّر النفع ، فإذا قارن ما ينفع الجسد ما يؤذي الروح تكدّر النفع وتنغص ، ولم يقع في مقابلة الفرح الحاصل من القول الجميل ، ولو لم يكن مع التنغيص أيضا لأن الروحانيات أشرف وأحسن وأوقع في النفوس (وَاللهُ غَنِيٌ) عن الصدقة المقرونة بالأذى ، فيعطي المستحق من خزائن غيبه (حَلِيمٌ) لا يعاجل بالعقوبة.

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُبْطِلُوا صَدَقاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذى كَالَّذِي يُنْفِقُ مالَهُ رِئاءَ النَّاسِ وَلا يُؤْمِنُ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوانٍ عَلَيْهِ تُرابٌ فَأَصابَهُ وابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْداً لا يَقْدِرُونَ عَلى شَيْءٍ مِمَّا كَسَبُوا وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ (264) وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمُ ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللهِ وَتَثْبِيتاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ أَصابَها وابِلٌ فَآتَتْ أُكُلَها ضِعْفَيْنِ فَإِنْ لَمْ يُصِبْها وابِلٌ فَطَلٌّ وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (265))
(مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمُ ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللهِ) هذا هو القسم الثاني من الإنفاق. فضّله على الأول بتشبيهه بالجنة ، فإن الجنة مع إيتاء أكلها تبقى بحالها بخلاف الحبة ، فأشار بها أنه ملك لهم كأنه صفة ذاتية ولهذا قال : (وَتَثْبِيتاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ) أي : توطينا لها على الجود الذي هو صفة ربانية ، وقوله : (بِرَبْوَةٍ) إشارة إلى ارتفاع رتبة هذا الإنفاق وارتقائه عن درجة الأول (أَصابَها وابِلٌ) أي : حظ كثير من صفة الرحمة الرحمانية ومدد وافر من فيض جوده لأنها ملكة الاتصال بالله تعالى بمناسبة الوصف واستعداد قبوله والاتصاف به (فَإِنْ لَمْ يُصِبْها وابِلٌ) أي : حظ كثير ، فحظ قليل (وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) بأعمالكم يرى أنها من أيّ القبيل.

(أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَنْ تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنابٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ لَهُ فِيها مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ وَأَصابَهُ الْكِبَرُ وَلَهُ ذُرِّيَّةٌ ضُعَفاءُ فَأَصابَها إِعْصارٌ فِيهِ نارٌ فَاحْتَرَقَتْ كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ (266) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّباتِ ما كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَلا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلاَّ أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ (267))

(أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ) تمثيل لحال من عمل صالحا إنفاقا كان أو غيره متقرّبا به إلى الله مبتغيا رضاه ، كما في هذا القسم من الإنفاق ، ثم ظهرت نفسه فيه ، وتحرّكت ، فكانت حركاتها المتخالفة بحركة الروح ودواعيها المتفاوتة المضادّة لداعية القلب إعصارا ، فافترض الشيطان حركتها واتخذها مجالا له بالوسوسة ، فنفث فيها رؤية عملها أو رياء فكان ذلك النفث نارا أحرقت عملها أحوج ما يكون إليه ، كما قال أمير المؤمنين عليّ عليه‌السلام : «اللهم اغفر لي ما تقرّبت به إليك ثم خالفه قلبي».
(أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّباتِ ما كَسَبْتُمْ) أمر بالقسم الثالث من الإنفاق من طيبات ما كسبتم ، إذ المختار بالله يختار الأشرف من كل شيء للمناسبة كما قال أمير المؤمنين عليّ عليه‌السلام : «إن الله جميل يحبّ الجمال» ومن كان في إنفاقه بالنفس لا يقدر على إنفاق الأشرف لضنّ النفس ومحبتها إياه ، واستئثارها به عن تخصيصه بالله ، فما كان بالنفس ليس ببر أصلا لقوله تعالى : (لَنْ تَنالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ) (1) ، (وَلا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ) تخصونه بالإنفاق كعادة المنفقين بالنفس والطبيعة (وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلَّا أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ) لمحبتكم الأطيب من المال لأنفسكم لاختصاص محبتكم بالذات إياها ، ولهذا لا تؤثرون الله بالمال عليها فتنفقوا أطيبه له (وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ غَنِيٌ) فاتصفوا بغناه فتستفيضوا به عن المال ومحبته (حَمِيدٌ) لا يفعل إلا الفعل المحمود ، فاقتدوا به.

(الشَّيْطانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشاءِ وَاللهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلاً وَاللهُ واسِعٌ عَلِيمٌ (268))
(الشَّيْطانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشاءِ) أي : الخصلة القبيحة التي هي البخل ، فتعوّذوا منه بالله ، فإنه (يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ) أي : سترا لصفات نفوسكم بنوره (وَفَضْلاً) وموهبة من مواهب صفاته لكم وتجلياتها كالغنى المطلق فلا يبقى فيكم خوف الفقر (وَاللهُ واسِعٌ) يسع ذواتكم وصفاتكم وعطاؤكم لا يضيق وعاء جوده بالعطاء ولا ينفد عطاياه (عَلِيمٌ) بمواقع تجلياته واستعدادها واستحقاقها.

(يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً وَما يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُولُوا الْأَلْبابِ (269))
(يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشاءُ) لإخلاصه في الإنفاق وكونه فيه بالله ، فيعطيه حكمة الإنفاق لينفق من الحكمة الإلهية لكونه متصفا بصفاته (وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً) لأنها أخصّ صفات الله (وَما يَذَّكَّرُ) أنّ الحكمة أشرف الأشياء وأخصّ الصفات (إِلَّا أُولُوا الْأَلْبابِ) الذين نوّر الله عقولهم بنور الهداية فصفاها عن شوائب الوهم وقشور الرسوم والعادات وهو النفس فجزاء الإنفاق الأول هو الإضعاف ، وجزاء الثاني هو الجنّة الصفاتية المثمرة للإضعاف ، وجزاء الثالث هو الحكمة اللازمة للوجود والموهوب. فانظر كم بينها من التفاوت.

(وَما أَنْفَقْتُمْ مِنْ نَفَقَةٍ أَوْ نَذَرْتُمْ مِنْ نَذْرٍ فَإِنَّ اللهَ يَعْلَمُهُ وَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصارٍ (270) إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِنْ تُخْفُوها وَتُؤْتُوهَا الْفُقَراءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَيُكَفِّرُ عَنْكُمْ مِنْ سَيِّئاتِكُمْ وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (271) لَيْسَ عَلَيْكَ هُداهُمْ وَلكِنَّ اللهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ وَما تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلِأَنْفُسِكُمْ وَما تُنْفِقُونَ إِلاَّ ابْتِغاءَ وَجْهِ اللهِ وَما تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لا تُظْلَمُونَ (272) لِلْفُقَراءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللهِ لا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْباً فِي الْأَرْضِ يَحْسَبُهُمُ الْجاهِلُ أَغْنِياءَ مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُمْ بِسِيماهُمْ لا يَسْئَلُونَ النَّاسَ إِلْحافاً وَما تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللهَ بِهِ عَلِيمٌ (273))
(وَما أَنْفَقْتُمْ مِنْ نَفَقَةٍ أَوْ نَذَرْتُمْ مِنْ نَذْرٍ فَإِنَّ اللهَ يَعْلَمُهُ) من أيّ القبول هو ، فيجازيكم بحسبه (وَما لِلظَّالِمِينَ) أي : المنفقين رئاء الناس ، الواضعين الإنفاق في غير موضعه ، أو الناقصين حقوقهم برؤية إنفاقهم أو ضم المنّ والأذى إليه أو بالإنفاق من الخبيث (مِنْ أَنْصارٍ) يحفظونهم من بأس الله (فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ) لبعدها عن الرياء وكونها أقرب إلى الإخلاص (لَيْسَ عَلَيْكَ هُداهُمْ) إلى الإنفاقات الثلاثة المذكورة المبرّأة عن المنّ والأذى والرياء ورؤية الإنفاق وكونه من الخبيث أي : لا يجب عليك أن تجعلهم مهديين إنما عليك تبليغ الهداية (وَلكِنَّ اللهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ وَما تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلِأَنْفُسِكُمْ) فلم تمنون به على الناس وتؤذونهم (وَما تُنْفِقُونَ إِلَّا ابْتِغاءَ وَجْهِ اللهِ) فما لكم تستطيلون به على الناس؟ وكيف تراءون فيه؟ (وَما تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ) ليس لغيركم فيه نصيب ، فلا تنفقوا إلا على أنفسكم في الحقيقة ، لا على غيركم فلا ينقص به شيء منكم ، فما لكم تقصدون الخبيث بالإنفاق منه فثلاثتها مصروفة إلى الأقسام الثلاثة المذكورة من الإنفاق للتحذير عن آفاتها بتصوير غاياتها (لِلْفُقَراءِ) أي : اقصدوا بصدقاتكم الفقراء (الَّذِينَ) أحصرهم المجاهدة (فِي سَبِيلِ اللهِ لا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْباً فِي الْأَرْضِ) للتجارة والكسب لاشتغالهم بالله واستغراقهم في الأحوال وصرف أوقاتهم في العبادات. (يَحْسَبُهُمُ الْجاهِلُ أَغْنِياءَ مِنَ التَّعَفُّفِ) عن السؤال والاستغناء عن الناس (تَعْرِفُهُمْ بِسِيماهُمْ) من صفرة وجوههم ، ونور جباههم ، وهيئة سحناتهم ، أنهم عرفاء فقراء ، أهل الله ، لا يعرفهم إلا الله ومن هو منهم (لا يَسْئَلُونَ النَّاسَ إِلْحافاً) أي : إلحاحا. والمراد نفي مسألة الناس بالكلية كقوله :
على لاحب لا يهتدى بمناره
والمراد نفي المنار والاهتداء جميعا ، أو نفي الإلحاف وإثبات التعطف في المسألة. (وَما تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ) على أيّ من أنفقتم ، غنيا كان أو فقيرا (فَإِنَّ اللهَ بِهِ عَلِيمٌ) أي : بأن ذلك الإنفاق له أو لغيره ، فيجازى بحسبه.

(الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ سِرًّا وَعَلانِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (274) الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبا لا يَقُومُونَ إِلاَّ كَما يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطانُ مِنَ الْمَسِّ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبا وَأَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبا فَمَنْ جاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهى فَلَهُ ما سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللهِ وَمَنْ عادَ فَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (275))
(الَّذِينَ يُنْفِقُونَ) عمم الإنفاق أولا وثانيا بحسب الأوقات والأحوال ليعلم أنه لا يتفاوت بها ، بل بالقصد والنيّة (الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبا لا يَقُومُونَ) إلى آخره ، آكل الربا أسوأ حالا من جميع مرتكبي الكبائر ، فإنّ كل مكتسب له توكل ما في كسبه قليلا كان أو كثيرا ، كالتاجر والزارع والمحترف ، إذ لم يعينوا أرزاقهم بعقولهم ولم تتعين لهم قبل الاكتساب فهم على غير معلوم في الحقيقة ، كما قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أبى الله أن يرزق المؤمن إلا من حيث لا يعلم». وأما آكل الربا فقد عين على آخذه مكسبه ورزقه سواء ربح الآخذ أو خسر ، فهو محجوب عن ربه بنفسه وعن رزقه بتعيينه ، لا توكل له أصلا ، فوكّله الله تعالى إلى نفسه وعقله ، وأخرجه من حفظه وكلاءته ، فاختطفه الجنّ وخبلته ، فيقوم يوم القيامة ولا رابطة بينه وبين الله كسائر الناس المرتبطين به بالتوكل ، فيكون كالمصروع الذي مسّه الشيطان فتخبطه لا يهتدي إلى مقصد (ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قالُوا) أي : ذلك بسبب احتجابهم بقياسهم وأول من قاس إبليس فيكونون من أصحابه مطرودين مثله.

(يَمْحَقُ اللهُ الرِّبا وَيُرْبِي الصَّدَقاتِ وَاللهُ لا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ (276) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (277) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَذَرُوا ما بَقِيَ مِنَ الرِّبا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (278) فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُؤُسُ أَمْوالِكُمْ لا تَظْلِمُونَ وَلا تُظْلَمُونَ (279) وَإِنْ كانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلى مَيْسَرَةٍ وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (280) وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ ما كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (281) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا تَدايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كاتِبٌ بِالْعَدْلِ وَلا يَأْبَ كاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَما عَلَّمَهُ اللهُ فَلْيَكْتُبْ وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ وَلْيَتَّقِ اللهَ رَبَّهُ وَلا يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئاً فَإِنْ كانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهاً أَوْ ضَعِيفاً أَوْ لا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِلَّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَداءِ أَنْ تَضِلَّ إِحْداهُما فَتُذَكِّرَ إِحْداهُمَا الْأُخْرى وَلا يَأْبَ الشُّهَداءُ إِذا ما دُعُوا وَلا تَسْئَمُوا أَنْ تَكْتُبُوهُ صَغِيراً أَوْ كَبِيراً إِلى أَجَلِهِ ذلِكُمْ أَقْسَطُ عِنْدَ اللهِ وَأَقْوَمُ لِلشَّهادَةِ وَأَدْنى أَلاَّ تَرْتابُوا إِلاَّ أَنْ تَكُونَ تِجارَةً حاضِرَةً تُدِيرُونَها بَيْنَكُمْ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَلاَّ تَكْتُبُوها وَأَشْهِدُوا إِذا تَبايَعْتُمْ وَلا يُضَارَّ كاتِبٌ وَلا شَهِيدٌ وَإِنْ تَفْعَلُوا فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ وَاتَّقُوا اللهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللهُ وَاللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (282) وَإِنْ كُنْتُمْ عَلى سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُوا كاتِباً فَرِهانٌ مَقْبُوضَةٌ فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضاً فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمانَتَهُ وَلْيَتَّقِ اللهَ رَبَّهُ وَلا تَكْتُمُوا الشَّهادَةَ وَمَنْ يَكْتُمْها فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ (283))
(يَمْحَقُ اللهُ الرِّبا) وإن كان زيادة في الظاهر (وَيُرْبِي الصَّدَقاتِ) وإن كان نقصانا في الشاهد ، لأنّ الزيادة والنقصان إنما يكونان باعتبار العاقبة والنفع في الدارين. والمال الحاصل من الربا لا بركة له ، لأنه حصل من مخالفة الحق فتكون عاقبته وخيمة وصاحبه يرتكب سائر المعاصي إذ كلّ طعام يولد في أكله دواعي وأفعالا من جنسه ، فإن كان حراما يدعوه إلى أفعال محرمة ، وإن كان مكروها فإلى أفعال مكروهة ، وإن كان مباحا فإلى مباحة ، وإن كان من طعام الفضل فإلى مندوبات ، وكان في أفعاله متبرّعا متفضلا ، وإن كان بقدر الواجب من الحقوق فأفعاله تكون واجبة ضرورية ، وإن كان من الفضول والحظوظ فأفعاله تكون كذلك ، فعليه إثم الربا وآثار أفعاله المحرّمة المتولدة من أكله على ما ورد في الحديث : «الذنب بعد الذنب عقوبة للذنب الأول» ، فتزداد عقوباته وآثامه أبدا ، ويتلف الله ما له في الدنيا فلا ينتفع به أعقابه وأولاده فيكون ممن خسر الدنيا والآخرة ، وذلك هو المحق الكليّ. وأما المتصدّق ، فلكون ما له مزكّى ، يبارك الله في تثميره مع حفظ الأصل وآكله لا يكون إلا مطيعا في أفعاله ، ويبقى ما له في أعقابه وأولاده منتفعا به وذلك هو الزيادة في الحقيقة ، ولو لم تكن زيادته إلا ما صرف في طاعة الله لكفى به زيادة ، وأيّ زيادة أفضل مما تبقّى عند الله ، ولو لم يكن نقصان الربا إلا حصوله من مخالفة الله وارتكاب نهيه لكفى به نقصانا ، وأيّ نقصان أفحش مما يكون سبب حجاب صاحبه وعذابه ونقصان حظه عند الله. (وَاللهُ لا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ) أي : آكل الربا كفار أثيم بفعله والله لا يحبّ من كان كذلك.

(لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَإِنْ تُبْدُوا ما فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحاسِبْكُمْ بِهِ اللهُ فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (284))

(لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ) أي : في العالم الروحاني كله ، بواطنه وصفاته وأستار غيوبه ودفائن جوده (وَما فِي الْأَرْضِ) أي : في العالم الجسمانيّ كله ظواهره وأسماؤه وأفعاله ، تشهد العالمين ، وهو على كل شيء شهيد (وَإِنْ تُبْدُوا ما فِي أَنْفُسِكُمْ) يشهده بأسمائه وظواهره ، فيعلمه ويحاسبكم به ، وإن تخفوه يشهده بصفاته وبواطنه فيعلمه ويحاسبكم به (فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ) لتوحيده وقوّة يقينه ، وعروض سيئاته ، وعدم رسوخها في ذاته ، فإنّ مشيئته مبنيّة على حكمته (وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ) لفساد اعتقاده ، ووجود شكّه ، أو رسوخ سيئاته في نفسه (وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) فيقدر على المغفرة والتعذيب جميعا.

(آمَنَ الرَّسُولُ بِما أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقالُوا سَمِعْنا وَأَطَعْنا غُفْرانَكَ رَبَّنا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ (285))
(آمَنَ الرَّسُولُ بِما أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ) صدقه بقبوله والتخلق به ، كما قالت عائشة : «كان خلقه القرآن والترقي بمعانيه والتحقيق». (وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللهِ) وحده جميعا (وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ) أي : وحده تفصيلا عند الاستقامة مشاهدا لوحدته في صورة تلك الكثرة معطيا لكل تجلّ من تجلياته في مظهر من مظاهره حكمة (لا نُفَرِّقُ) أي : يقولون : لا نفرّق بينهم بردّ بعض وقبول بعض ، ولا نشك في كونهم على الحق وبالحق لشهود التوحيد ومشاهدة الحق فيهم بالحق (وَقالُوا سَمِعْنا) أي : أجبنا ربّنا في كتبه ورسله ونزول ملائكته واستقمنا في سيرنا (غُفْرانَكَ رَبَّنا) أي : اغفر لنا وجوداتنا وصفاتنا وامحها بوجودك ووجود صفاتك (وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ) بالفناء فيك.

(لا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَها لَها ما كَسَبَتْ وَعَلَيْها مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنا لا تُؤاخِذْنا إِنْ نَسِينا أَوْ أَخْطَأْنا رَبَّنا وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنا إِصْراً كَما حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنا رَبَّنا وَلا تُحَمِّلْنا ما لا طاقَةَ لَنا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنا وَارْحَمْنا أَنْتَ مَوْلانا فَانْصُرْنا عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ (286))
(لا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها) لا يحملها إلّا ما يسعها ، ولا يضيق به طوقها واستعدادها من التجليات ، فإن حظ كلّ أحد من الكشوف والتجليات ما يطيق به وعاء استعداده الموهوب له في الأزل من الفيض الأقدس ، ولا يضيق عليه (لَها ما كَسَبَتْ) من الخيرات والعلوم والكمالات والكشوف على أيّ وجد ، سواء كانت بقصدها أو لا بقصدها ، فإنها من عالم النور فالخيرات كلها ذاتية لها ، ترجع فائدتها إليها دون الشرور من الجهالات والرذائل والمعاصي والنقائص ، فإنها أمور ظلمانية غريبة عن جوهرها فلا تضرّها ولا تلحق تبعتها بها إلا إذا كانت منجذبة إليها متوجهة بالقصد والاعتمال لتكسبها ولهذا ورد في الحديث : «إن صاحب اليمين يكتب كل حسنة تصدر عن صاحبها في الحال ، وصاحب الشمال لا يكتب حتى تمضي عليه ست ساعات ، فإن استغفر فيها وتاب أو ندم ، فلم يكتب ، وإن أصرّ كتب». والمراد بالنفس هاهنا الذات وإلا لكان الأمر بالعكس ، فيكون حينئذ معناه لا يكلفها إلا ما يسعها ويتيسر لها من الأعمال دون مدى الجهد والطاقة وذكر الكسب في موضع الخير لكونها غير معتنية به معتملة له ، والاكتساب في موضع الشرّ لكونها منجذبة إليه ، معتملة له بالقصد ، لكونها مأوى الشرّ.

(رَبَّنا لا تُؤاخِذْنا إِنْ نَسِينا) عهدك (أَوْ أَخْطَأْنا) في العمل لما سواك ، والقران على فراقك محتجبين عنك ، فإنّا غرباء ، بعداء ، طال العهد بنا مسافرين عنك ، ممتحنين في الظلمات بأنواع البلاء ، ولا قدر ولا مقدار لنا في حضرتك ، حتى تؤاخذنا بذنوبنا (رَبَّنا وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنا إِصْراً) في ذاتنا وصفاتنا وأفعالنا ، فتأصرنا وتحبسنا في مكاننا مهجورين عنك ، فإنه لا ثقل أثقل منها (كَما حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنا) من المحتجبين بظواهر الأفعال أو بواطن الصفات (رَبَّنا وَلا تُحَمِّلْنا ما لا طاقَةَ لَنا بِهِ) من ثقل الهجران والحرمان عن وصالك ، ومشاهدة جمالك ، بحجب جلالك (وَاعْفُ عَنَّا) سيئات أفعالنا وصفاتنا فإنها كلها سيئات حجبتنا عنك ، وحرمتنا برد عفوك ولذة رضوانك (وَاغْفِرْ لَنا) ذنوب وجوداتنا فإنها أكبر الكبائر.

(وَارْحَمْنا) بالوجود الموهوب بعد الفناء (أَنْتَ مَوْلانا) ناصرنا ومتولي أمورنا (فَانْصُرْنا) فإنّ من حق الوليّ أن ينصر من يتولّاه ، أو سيدنا ، ومن حقّ السيد أن ينصر عبيده (عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ) من قوى نفوسنا الأمّارة وصفاتها ، وجنود شياطين أوهامنا وخيالاتنا ، المحجوبين عنك ، الحاجبين إيّانا بكفرها وظلمتها.

القبعة الرمادية
10-04-2022, 02:56
ماشاء الله سبحان الخالق العظيم